جمهورية بلا جمهور أو حدائق الشيطان

- ‎فيمقالات

بدت القاهرة في الصباح الفائت كأنها مدينة أشباح. لا وجود للبشر العاديين فيها، فقط طائرات تستعرض في السماء، وسيارات جيش وشرطة، تتبختر على الأرض، وآلاف من أفراد الأمن، يحرسون موكباً عسكرياً، لجنرالٍ قفز للتو من كتاب الفاشيات العسكرية.

طلقات المدفعية التي رجّت طبقات الجو رجّاً، وأزيز الطائرات الحربية التي تحمل كل منها شعار سلاحٍ من أسلحة الجيش، والألعاب النارية في السماء، لم تطرد فقط العصافير من فوق الأشجار، بل جرّدت الشوارع والطرق من العابرين المدنيين، ما جعل العاصمة تبدو كأنها ماكيت مدينة أسطورية في لعبة إلكترونية، من تلك التي تعجّ بها تطبيقات الهواتف الذكية.

وعلى الرغم من ذلك، وقف الحاكم العسكري، في قاعة البرلمان، الأكثر عسكريةً من العسكريين، يتحدث عن الجمهورية والجماهير والدولة المدنية، ووقف رئيس البرلمان بين يديه، يطنطن بعباراتٍ مجففةٍ عن فرحة الملايين الذين أوصلوا الجنرال إلى الحكم.

لم تنجح الأقمار الاصطناعية، أو كاميرات البث الفضائي، في التقاط صورة واحدة لهذه الملايين تحتشد على الجانبين، بطول الطريق، لتحية الجنرال، والمشاركة في هذه الزفّة المبتذلة التي حملتها إلى مجلس النواب، لأداء اليمين.

والسبب، ببساطة، أن هذه الملايين ليست موجودة إلا في عناوين إعلامه الكذوب، وليست حاضرةً إلا فيما تعلنه أجهزته من أرقام، وهمية، عن حجم المشاركة فيما تطلق عليها الانتخابات، من دون أن ينفي ذلك أن هذه الملايين كانت هناك، بالفعل، في صيف الخديعة، يونيو/ حزيران 2013 محمولةً فوق أكاذيب وشعارات نخب سياسية تجرّدت من كل قيمة محترمة، ومارست أعمال السمسرة والقوادة على ثورة نقية عذراء، اسمها 25 يناير، وأقنعت أهلها بأنها ستزوجها لمن يعرف كيف يحميها ويحافظ عليها.

هذه الملايين من الجماهير لم تبق لديها مساحات إضافية لاستقبال واستيعاب مزيد من الأوهام والوعود الكاذبة، فما عادت تخرج أو تهتم، وقرّرت أن تختبئ داخل جلودها من البطش والإرهاب والإهانة التي تمارسها السلطة ضدها يومياً، إن لم يكن بقرارات الاعتقال، فبقرارات زيادة أسعار الخدمات العامة، بأرقامٍ فلكية، وكأن مصدر هذه القرارات يمارس أشرس أنواع الانتقام، وأفظع أشكال التدمير لمقومات المجتمع المصري.

تبدو الحالة المصرية الآن كأنها صورة مكبرة من دراما تلفزيونية مثيرة، قدّمها المخرج إسماعيل عبد الحافظ قبل نحو 12 عاماً تحت عنوان “حدائق الشيطان”، أدى فيها السوري جمال سليمان شخصية طاغية مستبد في صعيد مصر، يحترف البلطجة وزراعة المخدرات، ويمارس إرهاباً على سكان القرى، مستخدماً أسطورة “الغولة” أو الكائن المجهول المفترس القابع في بطن الجبل، منتظراً أي شخص يقرر الخروج فيلتهمه ولا يبقي منه شيئاً.

استطاع الدكتاتور الفاسد “مندور أبو الدهب” أن يُحكم قبضته على المنطقة، باستخدام أسطورة “الغولة”، فوضع بجانبها مكبرات صوت ضخمة، تنقل صوتها المخيف، واضحاً ومسموعاً، إلى الناس في بيوتهم، فتتضخم أسطورة الدكتاتور الباطش الذي لا يقوى عليه أحد، ويرتفع منسوب الخوف إلى أعلى مستوياته، مع بث أجهزة إعلام الطاغية حكاياتٍ عن كيف التهمت “الغولة” شباباً من القرية، دفعهم الحماس إلى الذهاب إلى الجبل، لإسقاط أسطورة الكائن الخرافي، فلم تبق منهم جلداً ولا عظماً.

احتاج أهل القرى سنواتٍ من الكفاح، حتى يكسروا حاجز الخوف والجهل والعجز، ويصعدوا إلى الجبل، ويفكّكوا أسطورة الغول الذي لا يقهر.

تماماً كما هزم المصريون في 2011 الخوف والعجز وصعدوا إلى التحرير.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها