قانون الإعلام.. ودستور النوايا الحسنة

- ‎فيمقالات

ما أشبه الليلة بالبارحة، قاتون جديد للإعلام يستحضر روح ونصوص قانون قديم تصدى له الصحفيون المصريون قبل حوالي ربع قرن وأسقطوه في عز حكم مبارك، لكن خليفة مبارك (عبد الفتاح السيسي) أراد أن يثأر لقائده مجددا بفرض القانون ذاته وعلى نطاق أوسع ليشمل الصحفيين والإعلاميين عموما ومؤسساتهم، بل وليضيف إليها الفضاء الأوسع وهو فضاء الإنترنت (صفحات السوشيال ميدييا).

هدية غير مناسبة
في العام 1995 أصدر مبارك قانونا لتنظيم الصحافة برقم (93)، ضمنه العديد من النصوص المكممة لحرية الصحافة، وغضب الصحفيون من ذلك، وعبر عن غضبهم وكيل نقابتهم الراحل جلال عيسى في كلمته أمام مبارك في حفل عيد الإعلاميين في 31 مايو، مؤكدا لمبارك أن ذاك القانون “هدية غير مناسبة” للصحفيين في عيدهم، ودعاه لتجميد العمل بالقانون، وعرضه لنقاش مجتمعي، فرد مبارك عليه (نحن لا نبيع ترمس.. القانون صدر لينفذ لا ليجمد)، وتداعى الصحفيون إلى جمعية عمومية طارئة قادها (بمعلمة) نقيبهم إبراهيم نافع رغم أنه كان أحد المقربين من النظام، لكنه كان يحمل في الوقت نفسه “جينات نقابية”، ظلت الجمعية الطارئة في حالة انعقاد دائم لمدة 13 شهرا حتى أسقطت القانون بعد أن صدق عليه رئيس الجمهورية وتم نشره في الجريدة الرسمية، وأصبح ذلك اليوم (10 يونيو 1996) هو العيد السنوي للصحفيين، وعلى طريقة (كيد النسا) أصر عبد الفتاح السيسي أن يصدر برلمانه القانون الجديد لتنظيم الإعلام والذي يعد أسوأ من القانون 93 لسنة 1995 في يوم عيد الصحفيين 10 يونيو 2018)، ولسان حاله يقول (ها قد عدنا يا صحفيين)، فماذا يكون رد الصحفيين عليه؟ وهل هم قادرون على تكرار معركة 1995؟ وإجبار السيسي على التراجع؟

فيلم كارما
يوم الإثنين 11 يونيو 2018 قررت إدارة المصنفات الفنية منع عرض فيلم كارما لمخرجه خالد يوسف، ومن إنتاج مجموعة العدل، قبل عرضه أيام العيد، رغم أنها وافقت مسبقا على العرض، وكان المنع بسبب وجود بعض العبارات التي رأتها الرقابة مسيئة للنظام، وعلى الفور قدم أعضاء لجنة السينما في المجلس الأعلى للثقافة إستقالة جماعية إحتجاجا على هذا التصرف، فتراجع النظام فورا، وألغى قراره، وبغض النظر عن ملابسات المنع والمنح، فإن هذا التحرك من السينمائيين هو رسالة جديدة للوسط الصحفي والإعلامي بأن (الحركة بركة) وأن (اليأس خيانة)، وأن قبولهم لتمرير القانون سيغري النظام بالمزيد من الإجراءات للتنكيل بهم، وقطع أرزاقهم.

قانون تنظيم الإعلام لا يخص الصحفيين والإعلاميين فقط، لكنه يهم المجتمع كله، فهو يتعلق بحرية الرأي والتعبير، وحرية تدفق المعلومات، ليعرف المواطن بشفافية ما يجري على أرض وطنه وفي العالم من حوله، وما يؤثر على حياته اليومية والوظيفية الخ، وما ينبغي أن يكون رد فعله تجاه كل ذلك، لصبح مواطنا شريكا في القرار لا منفذا فقط.

من بقايا حسنات ثورة يناير باب الحريات في الدستور المصري، وعلى الأخص حرية الصحافة، صحيح أن أيا من تلك النصوص لا يطبق شأن غيرها من نصوص الدستور الذي وصفه السيسي بأنه “كتب بنوايا حسنة، وأن الدول لا تبنى بالنوايا الحسنة.. اليوم السابع 13 سبتمبر 2015)، وهو ما عكس رغبة جارفة في التخلص من هذا الدستور وإعادة تعديله بما يواكب الحكم العسكري، لكن الصحيح أيضا أن إستمرار وجود هذه النصوص الدستورية يظل قيدا على هذه السلطة، لكنه قيد يحتاج لقوة تحميه، وتفرض تنفيذه، كل في مجاله، وهنا فإن الكرة في ملعب الصحفيين والإعلاميين خصوصا ليقودوا معركة الدفاع عن النصوص الخاصة بحرية الإعلام، وهي معركة ينبغي أن تشارك فيها بقية فئات الشعب أيضا بحسبان القانون يهم الجميع ويؤثر على الجميع، وباعتبار أن هموم الوطن وقضاياه كل لا يتجزأ، فحين ينتصر النظام في معركة فإنه يدخل فورا إلى ساحة معركة جديدة مع قطاعات أخرى، والعكس صحيح، فحين تنتصر إحدى مكونات المجتمع على النظام القمعي فإن ذلك يشجع مكونات مجتمعية أخرى للتحرك لنيل حقوقها.

في 2014
من دواعي فخري أنني شاركت ضمن وفد المجلس الأعلى للصحافة في الجلسة المخصصة لمناقشة مواد الصحافة في الجمعية التأسيسية لدستور الثورة (2012) وقد نجح الوفد في تضمين النصوص التي تحمي حرية الصحافة، والتي ظلت أساسا قائما في التعديلات اللاحقة عقب الإنقلاب في 2014، وقد أدخل عليها تعديلان فيما يخص إغلاق الصحف الذي كان من قبل يشترط صدور حكم قضائي نهائي، فأصبح ممنوعا تماما بأي وجه من الوجوه، كما تم النص على منع الحبس تماما في قضايا النشر والعلانية، وقد رحبت شخصيا بهذه الإضافات، ولكنها ظلت مجرد حبر على ورق، فحبس الصحفيين تصاعد حتى تجاوزت أعداد المحبوسين مائة صحفي في بعض الأحيان، كما تصاعد إغلاق الصحف والقنوات والمواقع حتى تجاوز عدد المواقع المغلقة 500 موقع، بخلاف الصحف والقنوات التي تم إعلاقها منذ اليوم الأول لإنقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن، ومع كل ذلك كان ولا يزال من الضروري التمسك بتلك النصوص الدستورية التي مثلت مكسبا كبيرا ليس فقط للصحفيين والإعلاميين بل لعموم المجتمع، وكان ولايزال من الضروري الدفاع عنها في مواجهة السلطة التي تريد الخلاص منها، والتي أصدرت بالفعل العديد من التشريعات المنافية تماما لنصوص الدستور، وأحدثها قانون تنظيم الإعلام الذي فرغ كل النصوص الدستورية الضامنة لحرية وإستقلال الصحافة والإعلام من مضمونها، وفرض نصوصا تنتمي لعصور الظلام التي تليق بالحكم العسكري والذي ساهم عدد كبير من الصحفيين وقياداتهم للأسف في تثبيته والترويج له، ثم هاهم اليوم يلقون منه جزاء سنمار، وبسببهم أصبحت مصر -حتى قبل صدور هذا القانون- في نادي أكثر 20 دولة في إنتهاك حرية الصحافة عالميا (المرتبة 161 عالميا من بين 180 دولة)، وقد صدرت العديد من الإدانات الدولية لهذه الإنتهاكات كان أحدثها ما صدر الثلاثاء من المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والذي طالب بإطلاق سراح الصحفيين والمدونين السجناء، وإلغاء القيود على حرية الصحافة.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها