“يناير” في ذكراها الثامنة.. الوعي والصمود

- ‎فيمقالات

مع الاحتفاء بالذكرى الثامنة لثورة 25 يناير 2011، تبدو الأجواء مختلفة هذا العام، وخاصة من أبناء الثورة الذين شعروا بالانكسار خلال الأعوام الماضية، لكنهم تجاوزا شعور الانكسار هذا العام، وراحوا يغردون على صفحاتهم عن عظمة الثورة، ومبادئها، ومكتسباتها، وضرورة التمسك بها، وتجديد العهد لها.

الشعور العام الذي يلمسه المتابع لحالة الكثيرين من ثوار يناير هذا العام، هو الإفاقة من حالة الانكسار التي سيطرت على بعضهم خلال السنوات الماضية، بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وبشكل أخص بعد اكتشافهم الخديعة الكبرى التي تعرضوا لها بمشاركتهم في مظاهرات 30 حزيران/ يونيو التي أنتجت انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، وهذه الإفاقة تمثل حالة وعي نتجت عن قراءة، ومعرفة بتاريخ الثورات الكبرى التي مرت بانكسارات وانتصارات، حتى استقرت أوضاعها في النهاية مثل الثورة الفرنسية.

خرج الكثيرون إذن من حالة الإحباط، وأدركوا أن ما تمر به ثورة يناير من انكسار هو أمر عارض، وأنه محض خسارة لجولة في طريق طويل كسبت خلاله الثورة جولات من قبل، ولن تتوقف قبل أن تحقق انتصارها النهائي، سواء في جولة واحدة كبرى أو عبر جولات صغيرة أو متوسطة.

هذه الإفاقة تمثل حالة وعي نتجت عن قراءة، ومعرفة بتاريخ الثورات الكبرى التي مرت بانكسارات وانتصارات، حتى استقرت أوضاعها في النهاية مثل الثورة الفرنسية

لكن من المهم التذكير بأنه في مواجهة حالة الإحباط التي سيطرت على فريق من أبناء الثورة خلال السنوات القليلة الماضية، فإن حالة استثنائية من الصمود كانت تسطر قصصها في سجون وشوارع مصر، وحتى للمنفيين خارجها. فرغم بشاعة القمع الذي بلغ ذروته في فض اعتصامي رابعة والنهضة بتلك الطريقة المرعبة، والتي كانت تستهدف بالأساس كسر نفوس المقاومين للانقلاب، بل كسر نفس الشعب المصري كله حتى لا يفكر في أي معارضة للنظام الجديد، إلا أن هذه النتيجة لم تتحقق خلال السنوات الخمس الماضية.

فالسجناء الذين اكتظت بهم الزنازين حتى لا يجد الكثيرون منهم مكانا للنوم لبضع ساعات، والذين يهانون، ويعذبون، ويقتل بعضهم، أو يهمل من العلاج حتى يلاقي حتفه ويكون عبرة لغيره، والذين يحرمون من زيارات ذويهم لشهور ولسنوات، والذين يقضي الكثيرون منهم حبسا احتياطيا لسنوات دون توجيه اتهام محدد لهم بالمخالفة للقانون، والذين يموت آباؤهم وأمهاتهم وأبناؤهم، ويمنعون من تشييعهم أو تلقي العزاء فيهم.. هؤلاء السجناء رغم كل ما يتعرضون له بهدف تركيعهم وكسرهم، إلا أنهم يسجلون ملاحم للصمود، نسمع بعضها حين تتاح الفرصة لأحدهم بالحديث في جلسات المحاكم أو ينقلها محاموه أو أفراد أسرته الذين يستطيعون دخول تلك المحاكم، وهؤلاء السجناء يرفضون بكل إباء توقيع استمارات توبة عرضتها عليهم مباحث السجون، على وعد الإفراج عمن يوقعها. وقد قرأنا من قبل تصريحات لبعض الشخصيات الموالية للنظام، والتي ادعت قدرتها على إقناع الكثيرين بتوقيع تلك الاستمارات، لكنها فشلت في مهمتها، وأعلنت عن حصولها على بضع عشرات من التوقيعات، من بين أكثر من 60 ألف سجين سياسي.

رغم بشاعة القمع الذي بلغ ذروته في فض اعتصامي رابعة والنهضة بتلك الطريقة المرعبة، والتي كانت تستهدف بالأساس كسر نفوس المقاومين للانقلاب، بل كسر نفس الشعب المصري كله حتى لا يفكر في أي معارضة للنظام الجديد، إلا أن هذه النتيجة لم تتحقق خلال السنوات الخمس

حين نتحدث عن هذا الصمود الأسطوري، فإن هذا لا يعني أن السجناء سعداء بحبسهم، أو أن أسرهم لا تتألم من هذا الحبس. ولا يعني قبول هذا الحبس وعدم التحرك لتخليصهم، ولكن قصدنا فقط إبراز جانب من الصورة التي تؤكد أن هذه الثورة مصيرها هو النصر طالما أن هؤلاء هم أبناؤها، ويبقى الواجب هو التحرك بكل سبيل ممكن لإنقاذ هؤلاء السجناء.

لم تقتصر قصص الصمود على السجناء، بل إن المطاردين داخل مصر والمنفيين خارجها أيضا يسطرون ملاحم أخرى في الصمود، فالكثير من هؤلاء، سواء ممن مر بتجربة السجن أو نجا منها، إلا أنهم تعرضوا للمطاردات والملاحقات، والفصل من الوظيفة والحرمان من مصدر الدخل، كما حرقت مصانع ومتاجر وبيوت الكثيرين منهم على يد بلطجية النظام وشرطته وجنوده، وصودرت ممتلكات الكثيرين، ومع ذلك فإنهم لم ينكسروا، ولم يتنكروا لثورتهم، ولا لمبادئهم. وكان بإمكان الكثيرين منهم (بتنازلات بسيطة) أن يهنأوا بالعيش وسط أبنائهم وفي بيوتهم، لكنهم ظلوا يعضون على مبادئهم بالنواجذ، غير مبالين بما يتعرضون له من تنكيل، يحدوهم الأمل بنصر قريب، مستهلمين تجارب شعوب أخرى مرت بثورات وتحولات ودفعت أثمانا باهظة حتى انتزعت حريتها وكرامتها وعيشها الكريم. (بالطبع لا يطعن في ذلك تساقط البعض وضعفهم، أو حتى خيانتهم، فالاستثناء دوما يؤكد القاعدة).

كان بإمكان الكثيرين منهم (بتنازلات بسيطة) أن يهنأوا بالعيش وسط أبنائهم وفي بيوتهم، لكنهم ظلوا يعضون على مبادئهم بالنواجز

مع استمرار شعور السلطة الغاصبة بفشلها في كسر إرادة المقاومين للاستبداد، رغم استخدامها المفرط القوة الغاشمة، فإنها لجأت إلى ما تبقى لديها من أساليب خسيسة نأى عن مثلها عرب الجاهلية الأولى، وهي حبس النساء، وحرمانهن من العيش مع أزواجهم المهجرين، ومنع الزوجات والأبناء الصغار والكبار من السفر للحاق بآبائهم خارج مصر، كوسيلة جديدة للضغط، وهي وسيلة مع حقارتها، إلا أنها تبدو في منتهى الغباء، فالشخص الذي عرًض نفسه للموت داخل مصر أو خلال رحلة الخروج منها لن يهزه فراق جبري عن أسرته مهما طال وقته.

ارتفاع منسوب الوعي بطريق الثورة، وما فيه من وعورات وانكسارات وانتصارات، واستمرار حالة الصمود الملحمي عبر السنوات الخمس الماضية، يمثلان أملا جديدا لانتصار الحق في النهاية وبلوغ الثورة غاياتها التي حددتها لنفسها من أول يوم (عيش- حرية- عدالة اجتماعية- كرامة إنسانية). ولعل الروح الينايرية التي ظهرت هذا العام بصورة لافتة عن السنوات الماضية؛ هي التي دفعت النظام لنشر القوات المسلحة في كل محافظات مصر بطريقة استعراضية، تم الإعلان عنها عبر وسائل الإعلام المختلفة، حتى يعلم بها كل مصري كوسيلة لإرهاب الناس وتخويفهم من أي حراك ضد النظام في ذكرى الثورة التي بات الكثيرون، حتى ممن ناصبوها العداء من قبل، يتذكرون خيراتها عليهم؛ من أجواء الحرية والكرامة والعزة التي تمتعوا بها خلال 30 شهرا هي عمر الثورة، والتي يفتقدونها كليا الآن.

عل الروح الينايرية التي ظهرت هذا العام بصورة لافتة عن السنوات الماضية؛ هي التي دفعت النظام لنشر القوات المسلحة في كل محافظات مصر بطريقة استعراضية،

أي حديث عن انهزام الثورة، هو حديث لا يعرف تجارب التاريخ والثورات، وهو يصب في مصلحة الحكم العسكري المستبد. فالثورة كسبت جولات أطاحت فيها برأس النظام والعديد من مساعديه، ومجلس طنطاوي العسكري، وفتحت باب الحرية واسعا، وحققت للمصريين كرامتهم في الداخل والخارج، ثم تعرضت لخسارة جولة (انقلاب الثالث من يوليو وما تلاه حتى الآن) لكنها لم ترفع الراية البيضاء، ولا تزال في حالة مقاومة تفرض على رأس النظام أن يخفي مكان سكنه حتى اللحظة، وتفرض عليه نشر للجيش إلى جانب الشرطة لمواجهة الغضب المحتمل. فالثورة المصرية ككل الثورات الكبرى؛ انطلقت ولن تتوقف حتى تصل محطتها الأخيرة مهما كلفها ذلك من وقت وتضحيات.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها