الصفقة وفن صناعة الهزيمة

- ‎فيمقالات

قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أخيرا في نيويورك، إنه سيقدم مشروعه للسلام في منطقة الشرق الأوسط بعد شهرين أو ثلاثة أشهر، وإنه متفائل بالنسبة لتنفيذ مشروعه، وتحقيق ما فشل فيه الرؤساء الأميركيون السابقون، ومشروع السلام هو المصطلح الذي يستخدمه ترامب وإدارته عادة بدلاً من مصطلح “صفقة القرن” الذي أصبح سيئ السمعة لدى العرب، بصفة عامة، والفلسطينيين، خصوصا.

لا أحد من المسؤولين الأميركيين أو الإسرائيليين أو العرب تحدث صراحة عن مضمون ذلك المشروع، أو تلك الصفقة، إلا أن ما قام به ترامب من إجراءات وتحرّكات، وما يتحدّث عنه من رؤية مستقبلية للمنطقة، في ما يتعلق بتصفية القضية الفلسطينية، ودور دولة العدو الإسرائيلي في المنطقة، وطبيعة ما يجب أن تكون عليه العلاقات العربية – الإسرائيلية من تعاون وثيق، خصوصا فى مواجهة ما يجب اعتباره عدواً مشتركاً، وهي إيران. وذلك كله، بالإضافة إلى المناخ العام المضطرب الذي يسود المنطقة، أحدث انطباعاً عاماً لدى الرأي العام العربي بأن مضمون مشروع ترامب، أو صفقته، ينصب أساساً على تصفية القضية الفلسطينية، فلا أرض، ولا قُدُس، ولا هوية، ولا دولة تحمل اسم فلسطين، ولكن فقط مجرّد مجموعة من السكان في كانتونات متقطعة في الضفة الغربية، تحيط بها المستوطنات اليهودية. ويمكن لهؤلاء السكان العرب أن تكون لهم إدارة ذاتية في إطار شكلٍ من الكونفدرالية مع المملكة الأردنية فى الضفة الشرقية لنهر الأردن. أما قطاع غزة، فلا مانع من تمتّعه بحكم ذاتي أو شبه استقلال، في كيان ذي طبيعة خاصة، مع إمكانية بحث توسيع رقعته، بما يستوعب الكثافة السكانية الكبيرة المحتملة، في إطار عملية تبادلٍ للأراضي بين سيناء والنقب.

يتوقف تمرير تلك الصفقة على إرادة الشعوب، فهي العامل الحاسم، على الرغم من تواطؤ النظم مع صفقة ترامب، وتهافتها للتطبيع مع العدو الإسرائيلي. ولأن هذا لم يكن خافياً على ترامب وإدارته، ولا على نظم الحكم في المنطقة. من هنا، كان لا بد من العمل بجديةٍ على كسر إرادة الشعوب، من خلال بث روح انهزامية تسري في وجدانها، تجعل ممكنا تمرير تلك الصفقة، وما سيترتب عليها من إعادة هيكلة لمنطقة الشرق الأوسط كلها، وإيجاد علاقات قوى جديدة، تكون إسرائيل محور الارتكاز فيها.

ليس الحديث هنا عن نظرية مؤامرةٍ، ولا عن تحليلاتٍ وتقديراتٍ، وإنما تعامل مع وقائع مادية جرت وتجري على الساحة بشكل واضح، وممنهج، بالإضافة إلى استغلال كل فرصةٍ تسنح، أو خطأ يتم ارتكابه حتى لو كان خارج سياق المخطط الصهيوأميركي الذي يهدف إلى “صناعة الهزيمة”، وترسيخ الشعور بها في وجدان الشعوب العربية. ولنتابع فقط الوقائع، منذ بداية الحملة الانتخابية لترامب، وحديثه المتكرّر عن اعتزامه تفعيل قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل سفارة أميركا إليها عند انتخابه. وفي حملته الانتخابية نفسها، كرّر حديثه عن استهدافه الثروات النفطية العربية باعتبارها حقا لأميركا في مقابل حمايتها تلك النظم والدول العربية. وهو ما حدث بالفعل بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، اعترفت أميركا بالقدس المحتلة عاصمة لدولة العدو الإسرائيلي، ونقلت سفارتها إليها في احتفالية رسمية. وسبق ذلك الاعتراف زيارة ترامب الشهيرة الرياضَ، وتوقيع صفقات متعدّدة مع السعودية، تجاوزت 450 مليار دولار، وترتيب النظام السعودي عقد ثلاث قمم مع ترامب، سعودية وعربية خليجية وأميركية إسلامية، وتهافت الملوك والأمراء والزعماء على المشاركة في تلك القمم، والتي لم تسفر سوى عن الإذعان لتوجهات ترامب، ومطالب أسرته المصاحبة له، وذلك كله والشعوب ترى، وتسمع، وتراقب، ولا تملك من أمرها شيئاً.

لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل كان ذلك مجرد بداية، أعلنت أميركا أن القدس أصبحت خارج عملية التفاوض، وبدأت في إجراءات تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، بإيقاف دعم وكالة غوثهم وتشغيلهم (أونروا)، وإيقاف دعم السلطة الفلسطينية، عدا مخصصات التنسيق الأمني مع إسرائيل، والإيعاز لبعض الدول بعدم الاعتداد بجوازات سفر اللاجئين المؤقتة، ومطالبتهم بجوازات سفر من السلطة الفلسطينية، أو الدول المقيمين فيها، لإنهاء صفة اللاجئ الفلسطيني عنهم، وبالتالي فقدان حق العودة، وهو ما حدث بالنسبة لرفض السلطات السعودية قبول دخول لاجئين فلسطينيين إلى المملكة لأداء العمرة أو الحج بجوازات سفرهم المؤقتة.

العدو الإسرائيلي مستمر في سياسة تهويد القدس، وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وحصار قطاع غزة والتضييق على المقاومة مع طرح لعبة عقد اتفاق تهدئة أو هدنة مؤقتة مع القطاع في مقابل تخفيف الحصار، وهو ما يفتح الباب أمام التعامل مع القطاع باعتباره الكيان الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، التعامل العنيف مع مسيرات العودة التي ينظمها فلسطينيو قطاع غزة أسبوعيا، وسقوط مئات الشهداء والجرحى. وعلى الرغم من ذلك كله، لم يكن هناك أي نوع من ردود الفعل المندّدة بكل تلك الإجراءات من النظم العربية، لا تجاه أميركا ولا تجاه إسرائيل، بل كان هناك مزيد من التماهي مع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط وتوجهاتها التي ركزت على محاربة الإرهاب ومحاربة إيران باعتبارها عدوا مشتركا للنُظم العربية وإسرائيل.

إلى جانب تلك الوقائع المادية، هناك أجواء الاضطراب، وعدم الاستقرار، السائدة في بلدان عديدة في المنطقة، والتي تحولت إلى “دول فاشلة”. ولعل أوضح أمثلةٍ على ذلك أحوال سورية وليبيا واليمن وبدرجات أقل في دول أخرى، والحرب النفسية الشرسة التي تستهدف المواطن العربي للتخويف من المستقبل المجهول، والضغوط الاقتصادية، وفقدان الشعور بالأمن. وقد ظهر ذلك جلياً في التعامل مع حادث قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، وعلى يد فرقة محترفة برعاية مسؤولين رفيعي المستوى فى المخابرات العامة السعودية والديوان الملكي السعودي. وكيف ركزت وسائل الإعلام العالمية على أن المواطن العربي غير آمن على حياته، لمجرّد إبداء رأي مخالف للسلطة.

إذا أضيفت إلى ذلك كله تلك الحملة الشرسة التي تستهدف تاريخ الأمة، وتركّز على أنه تاريخ من الهزائم، والإخفاقات، وحتى الانتصار العسكري العربي الوحيد الواضح في العصر الحديث، وهو انتصار أكتوبر 1973، يتم تشويهه، تارة بأنه كان مجرد تمثيلية، وأخرى بأن الخيانة أحاطت به من أعلى مستويات السلطة، وتارة بأنه كان مجرّد حرب تحريكٍ للتغطية على عملية التفاوض، والاعتراف بإسرائيل. وفي أحسن الأحوال، فهو انتصار المصادفة أو المعجزة التي لا تتكرّر، هذا غير التسريبات شبه اليومية عن عمليات التطبيع العربية الإسرائيلية.

ذلك هو “فن صناعة الهزيمة” الذي يمارسه التحالف الصهيوأميركي. وللحقيقة، لا يمكن أن ينجح ذلك المخطط من دون دعم داخلي، فنحن نساهم في هزيمة أنفسنا، بالصمت، وبالعجز، وبالإحباط، واللامبالاة العامة، وانعدام الشعور بالحرية، والعدالة الاجتماعية. نحن نساهم في هزيمة أنفسنا بالإقصاء، وتقسيم المجتمعات، والطائفية، وإحداث الصراعات المجتمعية، والقائمة طويلة.

على الرغم من ذلك كله، يبقى الأمل في أمرين: استمرار روح المقاومة، على الرغم من كل ما يحيط بها من حصار. والأجيال الشابة الجديدة القادرة على تخطّي حاجزي التعتيم والتغييب. وقبل ذلك، يبقى الإيمان الراسخ بالحق هو القادر على تماسك إرادة الأمة.

==============

نقلا عن “العربي الجديد”

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها