العسكر وصناعة الأزمات

- ‎فيمقالات

استيقظ الناس على هول المشهد حينما تطايرت الأخبار بخروج الحشود من كل حدب وصوب ليمنعوا دفن طبيبة، توفاها الله، بعد أدائها مهمتها في مواجهة كورونا خوفا على أنفسهم وذويهم من هذا الوباء، وتباينت ردود الفعل بين الاستهجان وعدم التصديق لما يحدث.

وإن كان هذا حدث من قبل لأمثال هؤلاء حينما رقصوا وغنوا تسلم الأيادي، حينما قتل الجيش والشرطة والبلطجية الضعفاء في رابعة العدوية والنهضة والمنصة والحرس الجمهوري، بل وأريقت الدماء في كل شارع من شوارع مصر، وبالرغم من ذلك ظلت طائفة ترقص فرحا بما جرى، وغنوا إحنا شعب وهم شعب.

لكن دعونا نقف وقفة مخالفة لما تناولته وسائل التواصل الاجتماعي والهجوم الشرس على أهل شبرا البهو بمركز أجا بالدقهلية، خاصة بعد بيان وزارة الداخلية الذي خرج في نفس اليوم يتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنهم من حرضوا الناس على التصدي لدفن الدكتوراه المتوفاة، ولنتعرف كيف يصطنع العسكر الأزمات من أجل تثبيت دعائم أركانه.

حادثة شبرا البهو

توفيت إحدى الطبيبات في مستشفى العزل بالإسماعيلية بعد أدائها مهمتها في علاج المرضى في هذه المستشفى قبل أن يصيبها الوباء اللعين، غير أن الوفاة عاجلتها بسبب تمكن المرض منها، وقام الفريق الطبي بتكفينها بما يعزز الجانب الطبي والحماية الصحية، واتجهت سيارة الإسعاف إلى بلدة زوجها فتفاجأ الجميع بخروج الأهالي يتصدون لسيارة الإسعاف من ولوج القرية لدفن الطبيبة، وحينما عادت إلى قريتها ومسقط رأسها رفض أهلها أيضا دفنها، فعادت السيارة مرة أخرى لبلدة زوجها، لكن الأمر كان قد احتدم، مما دفع بقوات الشرطة بالتوجه إلى القرية ومحاولة التفاوض مع الأهالي، وحينما لم يجد نفعا قامت بضربهم بالقنابل المسيلة للدموع لتفريق جمعهم ودفن الطبيبة المتوفاة.

ثم سارعت وزارة الداخلية– مدفوعة بتعاليم قائد الانقلاب– يساعده الإعلام التابع للعسكر، بترويج اتهام بأن من قاموا بالتصدي لدفن الطبيبة هم الإخوان المسلمون، وأنه تم القبض على عدد منهم، وتناقلت الصحف هذه الأخبار وتداولتها المواقع الإخبارية التابعة لإعلام الانقلاب.

وقد مارس الإعلام المزيد من تغيب الوعي والذي دفع بالناس لهذا الاعتقاد، فقد خرج علينا العديد من الصحف ومن وسائل الإعلام في بداية انتشار الوباء في مصر في فبراير 2020م بخبر أن دفن الأموات المصابين بكورونا بجوار الأحياء قد تصيب الأحياء بنسبة كبيرة جدا بهذا الوباء، مما جعل الناس يخافون من دفن الموتى أو استلام جثث ذويهم لدفنها كما حدث مع سيدة مستشفى النجيلة بمطروح. هذا التصرف جعلنا نقف وقفه حول تسلسل الأحداث والأهداف المرجوة مما حدث.

لقد سقط العسكر القابضون على الحكم في الكثير من الأزمات مما كشف حقيقتهم للشعب المصري الذي نفض عن نفسه غطاء الخوف وخرج في مظاهرات 20 سبتمبر 2019م، يطالبون برحيل العسكر عن حكم مصر بعد أن باعوا الأرض، وفرطوا في مياه النيل، وأفقروا البلاد، وقتلوا العباد في سيناء وفي كل مكان، مما أفزع العسكر خوفا على ما في أيديهم من سلطان وممتلكات، فكان لا بد من صناعة الأزمة التي تغيب وعي الناس– خاصة أن تاريخهم مشهود له بذلك – فكما كانوا يدسون وسط الناس من يلهب مشاعرهم ويؤجج النار في قلوبهم، لحشد الناس من اجل تنفيذ مخططهم كما فعلوا عام 1954م، وكما فعلوا عام 1967م، أقدموا على فعل ذلك في قرية شبرا البهو حتى يحققوا أهدافهم مثل:

1-    زيادة تشويه صورة الإخوان وأنهم من منعوا دفن الطبيبة المتوفاة.

2-    تشويه صورة الأطباء– خاصة بعدما نالوا احترام وتقدير الجميع في هذه الأزمة– مما أفزع رجال الجيش خوفا على تهاوي مكانتهم.

3-    تصوير الشعب بأنه شعب منعدم الأخلاق وفقد كل معاني الإنسانية فيستطيع أن يصدر هذه الصورة للشعوب الغربية– التي تستهجن هذه الصورة- فيتمسكوا بقائد الانقلاب في الحكم ليحميهم من هؤلاء الرعاء.

4-   إلهاء الناس عن أزمة نقص الإمكانيات والمستلزمات الطبية في الوقت التي تصدرها لدول الغرب لترضى عنه.

5-    غرس بذور الكره والبغضاء بين أفراد الشعب لا سيما جراء هذه التصرفات.

6-    التغطية على الجرائم التي تحدث في السجون والمعتقلات، على الدعوات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين.

ولقد نجح العسكر في صناعة أزمة بين الشعب بينه وبين بعضه، في الوقت الذي خرج فيه يباهي أننى من احترمت الانسانية وقامت الشرطة بفرض رأيها على الجميع في دفن الطبيبة المتوفاة.

تاريخ من الأزمات

لم تكن هذه الأزمة هي الأولى التي يقوم بها العسكر لتثبيت أركان حكمه، فمنذ أن سطوا على الحكم بعد ثورة 23 يوليو 1952م وصناعتهم الأولى هي صناعة الأزمات للحفاظ على عروشهم.

فحينما نجحت الثورة نادى الجميع بعودة العسكر إلى ثكناتهم وترك السلطة للمدنيين، غير أن قادة العسكر كان لهم رأى آخر حيث كانت أهدافهم حينما نجحت الثورة أن يتحولوا عسكريين في زي مدني ويحكموا البلاد، ولذا كان لا بد من تخويف الناس من الديمقراطية والحكم المدني، فكان الانقضاض على دستور 1923م وإلغاء اللجنة التي شكلت لوضع دستور جديد للبلاد، ثم قاموا بفرض اعلان دستوري عسكري حتى وضعوا دستور عام 1957م.

كان لا بد من صناعة أزمة حقيقية للقضاء على المطالب التي تطالب بعودة العسكر لثكناتهم، خاصة أن هذه المطالب أجبرت العسكر على إعادة نجيب للحكم في أحداث مارس 1954م، فعمد عبدالناصر وحزبه إلى إيهام الشعب أن الثورة قد انتهت، وإثارة الخوف في نفوسهم من عودة البلاد إلى ما قبل الثورة وإلغاء قوانين العمل والضمانات الجديدة، بالإضافة إلى عموم الفساد مرة أخرى. كما كان لعبد الناصر رغبة خبيثة في إثارة الغضب بنفوس الضباط، حيث إن تحققت الديمقراطية سيخسرون مناصبهم وامتيازاتهم الجديدة.

فخرج الشعب بتوجيه من «هيئة التحرير» في يوم 28 مارس/آذار رافعين شعار «لا للديمقراطية»، لينجحوا في تنظيم الإضراب والاعتصام الأضخم منذ عام 1919. لتتحول الديمقراطية إلى صفعة على وجه نجيب وأنصارها.

والمثير للاهتمام أن إضرابات واعتصامات العمال -وما لحق بها- كان من تخطيط المخابرات الحربية وعبد الناصر، فكانت المنشورات تطبع بها ويتم توزيعها على مختلف الأفراد، بالإضافة إلى وجود تابعين لعبد الناصر في كل الأماكن للتشجيع على المطالبة ببقاء الثورة وآن أوان الديمقراطية لم يحِن بعض.

فكانت تلك المظاهرات هي القشة التي قسمت ظهر فرصة تحقيق المسار الديمقراطي في مصر، كما صحبها حل الأحزاب السياسية بحجة التطهير، وفض اعتصام عمال كفر الدوار بالقوة بعد الثورة بأيام، وإعدام مصطفى خميس ومحمد البقري على إثره، كما امتد الأمر إلى القضاء على دور الطلاب السياسي، بالإضافة للهجوم على مجلس الدولة وضرب رئيسه المستشار عبدالرازق السنهوري، انتهاء بتوجيه ضربه للإخوان ومحمد نجيب عام 1954، حيث لم يكن القضاء على الديمقراطية التي تبناها مجلس الثورة بعقلها المدبر جمال عبد الناصر، إلا وسيلة لسيطرة الملك على رقعة الشطرنج من خلال عساكره المتعددة. كما ذكر أحمد أبو الفتح في كتاب جمال عبدالناصر، وكما ذكر العديد من الضباط الأحرار في مذكراتهم.

لم تكن هذه المرة الوحيدة التي تشهد صناعة الأزمات من قبل العسكر لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة، بل ظل عبدالناصر بين الحين والأخر يصطنع أزمة لكي يطيح بأحد رفقاء الثورة الأقوياء لخوفه من أن يحبه الشعب فأطاح بخالد محي الدين ويوسف صديق ثم صلاح وجمال سالم، ثم عبداللطيف البغدادي، بل سجن زميله كمال الدين حسين وترك زوجته تموت حينما بعث له برسالة عام 1965م يقول له فيها [اتق الله].

وحينما وقعت هزيمة 1967م كان لابد من اصطناع أزمة حتى لا تفلت البلاد من زمامه فأوعز لاتباعه بتحريك الناس للتمسك به، والذي وصفه محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار»، مشيرا إلى خروج الملايين في شوارع مصر والعالم العربي فور خطاب جمال عبدالناصر الذى أعلن فيه تنحيه عن الحكم يوم 9 يونيو 1967،  وإسناد الرئاسة إلى زكريا محيى الدين،  وتحمله مسئولية نكسة 5 يونيو 1967.

فخرجت المظاهرات تطالبه بالعودة وعدم ترك الحكم، حتى أن زكريا محي الدين عرف أن مظاهرات في الشوارع تهتف ضده وتطالبه بألا يقبل ما كلف به، وإلا فهو أمام الناس خائن.

حتى جاءت رسالة عبدالناصر لمجلس الأمة التي أظهرت الحقائق: إن الكمات تضيع منى وسط زحام من المشاعر يملك على كل جوارحي، وأقول لكم بأمانة، وأرجوكم تبليغ مجلس الأمة الموقر أننى مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري، وفى نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد، ولذلك استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفى الموضع الذى يريد الشعب منى أن أبقى فيه حتى تنتهى الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان.

وبعدها بسنوات قليلة ذهب عبدالناصر إلى مثواه الأخير ليتبوأ مكانه عسكري أخر ليستكمل الأزمات ضد الشعب لكي يحتفظ بكرسيه، وقد ساعده على تثبيت دعائم حكمه الامتيازات الكثيرة التي أنعم بها على العسكر، فكانت الأزمات بين المسلمين والأقباط، وإشغال الناس بقضية عزل البابا شنودة، ثم أحداث الفوضى في الزاوية الحمراء، بل وصناعة الأزمات في خطاباته ضد المعارضين.

لم يكن عصر مبارك بعيد عن فكرة صناعة الأزمات وإشغال الناس بها، لكن منذ أن تولى الحكم بعد وفاة السادات حتى وضع منهجية لهذه الأزمات التي تشغل الناس، فوضع سياسة إلهاء الناس حتى لا يطالب أحد بحقوقه، فشغلهم بلقمة العيش وكيفية تدبيرها والسعي عليها.

ثم كانت التفجيرات التي ملئت أنحاء البلاد ليظل قانون الطوارئ مسلط على رقاب الناس، ثم جاءت فكرة التوريث التي شغلت الجميع سواء في المؤسسات الرسمية أو الشعبية.

وهكذا كانت سياسة المجلس العسكري فترة ما بعد الثورة، حيث ملأ أركان البلاد بشتى الأزمات والانشقاقات، بلغت ذروتها بعدما تولى عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، ليصبح الشعب المصري منقسما بين مؤيدي السيسي وبين جموع الشعب المصري، بلغت بهم أن وصفوا الأمر بأنهم شعب والأخرين شعب.

لقد أطلق العنان لأجهزته لخلق أزمات للتغطية على فشله في جميع الملفات سواء الداخلية أو الخارجية، وأن جميع الشعب أصبح يعي لما يقوم به، ولذا لجأ لإحداث أزمات بين طوائف المجتمع بعضهم البعض، وهو ما يجعلنا نقول إنه كان خلف ما حدث في قرية شبرا البهو، مع تأكيدنا أننا لا نعفي الأهالي مما حدث الآن، ولا وقت أن رقصوا على أغنية تسلم الأهالي مباركة للمذابح التي قام بها السيسي وجيشه.