لا يعرف السودانيون إلى أين سيمضي بهم الغضب من الأوضاع السياسية والاقتصادية لبلادهم، وشهدت المنطقة العربية في السنوات الثماني الأخيرة تغيرات جوهرية، وأصيبت بصدوع كبيرة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هيأت البيئة العامة في أغلب البلدان العربية للانفجار في أي لحظة، وهو ما حدث في عطبرة والخرطوم التي ودعت 2018 واستقبلت 2019 بالدماء.
لكن القاسم المشترك بين معظم الدول التي حدثت فيها ثورات أو حركات احتجاجية عنيفة هي الحالة الاقتصادية المتردية وانتشار الفساد والبطالة، والشح في الحياة السياسية، حيث أصبحت هذه البيئات كومة قش، وتكفي شرارة صغيرة جدا لتندلع النيران في البنية الأساسية لمختلف الطبقات المكونة للمجتمعات بحسب الطبيعة الخاصة في كل بلد.
تقول الإعلامية السودانية رفيدة ياسين: “غالبية من أعرفهم من السودانيين حتى هؤلاء غير النشطين في وسائل التواصل الاجتماعي ألغوا مظاهر الاحتفال بالسنة الجديدة حدادا على الدماء التي اُريقت بلا ذنب.وجع كل بيت سوداني هو وجعنا وهمهم همنا زي ما حلمهم حلمنا ببلد يسعنا جميعا رغم البعد معكم”.

الحقيقة الكبرى
من جهتها أعلنت “حركة الإصلاح الآن”، اليوم الثلاثاء، انسحابها من الحكومة السودانية، وذلك وسط احتجاجات تشهدها البلاد تنديدا بالأوضاع الاقتصادية وتطالب برحيل الرئيس عمر البشير، وحذّرت الناشطة السودانية تحفة رفعت الكامل، وهي طالبة في جامعة الأحفاد في ولاية الخرطوم ومن المشاركات والمساهمات في الاحتجاجات، من التعويل على الجيش قائلة :”الجيش سلاح ذو حدين، موقفه الآن أقرب للناس، لكن هذا قد لا يطمئن لاحقًا. نحن ننظر إلى الجيش ليكون مساندًا لنا، لكن ليس كبديل عن النظام القائم كما حصل في التجربة المصريّة. هذه الحكومة جاءت بانقلاب عسكري ولا نريد انقلابا جديدا، ونحن لن نقبل بحكومة عسكرية من جديد. نقبل بالجيش كسند للثورة لكن ليس للاستيلاء على السلطة بانقلاب وهذا أمرٌ وارد، وإن لم نكن واعين لهذه المسألة، الجيش قد يأخذ الأمور لمصلحته”.
ولم تكن طموحات من خرجوا في التظاهرات بداية الربيع العربي تتجاوز المطالب الاقتصادية ومكافحة الفساد والمفسدين وتوفير فرص العمل، وبكل ما يتعلق بالناحية الاقتصادية، مع بعض المطالبات بالإصلاح السياسي في تلك البلدان، ولكن مع اختلاف تعامل الحكومات مع المتظاهرين ارتفع سقف المطالبات، وظهرت لنا نتائج مختلفة هي الآن واضحة للجميع.
وأصدرت الجبهة الوطنية للتغيير في السودان، والتي تضم ٢٢ حزبا سياسيا بيانا، تطالب بتشكيل مجلس سياسي مؤقت وحكومة انتقالية لإدارة المرحلة للتجهيز لانتخابات جديدة، وعلى الأجهزة الأمنية النأي عن التدخل في الخلافات السياسية، يقول مدير مكتب دراسات الشرق، الدكتور مهنا الجبيل:” البشير يشكل لجنة تقصي حقائق! الحقيقة الكبرى كوهج الشمس انك صنعت الكارثة وأنهكت الشعب الذي يصرخ من بأسك اليوم يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور والحقيقة الثانية لو تبقى لديك تقوى أن تفتح الطريق لانتقال سلمي منظم ليولد السودان من جديد دون أن يلقى في تابوهات الأوصياء”.
المسيرة التي يقودها أقطاب محفل الحكم في السودان وفي صدارتهم الرئيس عمر البشير، لا يعرفون إلى أين هم متجهون ببلادهم؛ كأنما يتخذون قراراتهم السياسية بأعين مغمضة، وأدمغة في حال تبريد، يتعاطون السياسة بهدف البقاء في السلطة فحسب، وأصبح إعلامهم الفضائي والصحف التي ينفقون عليها مثل قرص مخدر ينقلهم بسهولة من النعاس إلى سبات عميق.
طريق الحرية
وأصبح الشعب السوداني أشد ارتباكاً من قادته الذين في الحكم، فهو لم يعد ينظر إلى البدائل المحتملة لقيادته إلا بمنظور الأكاذيب والترهات التي يبثها إعلام النظام، وزاده لبساً وتشويشاً أنه أضحى يرى شاشات التلفاز تزدحم بصور القادة التاريخيين للعهود الديمقراطية وهم يهرولون ليل نهار إلى قصر الضيافة والقصر الجمهوري للقاء البشير، ويخرجون من تلك اللقاءات بنصيب من كعكة الحكم التي أكلها دود الفساد.
واشتد الإشكال في عقول السودانيين وهم يسمعون قادتهم التاريخيين يبررون هرولتهم بمقولات من جنس “الأجندة الوطنية..ضرورات المرحلة الوطنية..ما يحتمله أمن البلاد وسلامتها..ما يقتضيه هذا الظرف المفصلي في تاريخ الوطن”، والحقيقة أن أولئك القادة ليسوا سوى باحثين عن مكاسب يرتدون أثواب قديسين، مستعينين بهالة القداسة التي يحيطون بها أنفسهم وتاريخهم ورموزهم العائلية، وهل يكفي ذلك مبرراً للخنوع والرضا بالذل والهوان وتغبيش النظر إلى المستقبل؟ أليس من حق هذه الملايين من السودانيين أن يحلموا بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية؟.
من السودانيين رجال مؤمنون بأن شمس الحرية والإنصاف ستشرق مهما طال حجبها، ولئن فقد هؤلاء الثقة بزعاماتهم التاريخية، فإن في قرارة أنفسهم شعورا دفينا بأن الثورة في السودان لا تعرف فصولاً، فقد اندلعت صيفا وخريفا وشتاءً، ولم تقوَ أسلحة الجيش وبطش الأجهزة الأمنية على حجب ضوء النهار عن أعين الشعب حين قرر إسدال الستار على نظامي الفريق إبراهيم عبود، في عام 1964، والمشير جعفر محمد نميري، في عام 1985.
الباحث السوداني أبو بكر عبد الرازق، تحدث عن مآلات الانتفاضة السودانية الحالية، قائلًا إنه رغم الإحباط الذي كان عند السودانيين بسبب ما جاء في تجارب الثورات العربيّة عام 2011 مثل مصر وسورية واليمن، إلّا أن السودانيين يخرجون اليوم للتظاهر، معتبرًا أن “الحكومات الاستبدادية في المنطقة العربية وظّفت مخرجات الربيع العربي بشكل رسالة مفادها أنه ’إذا خرجتم للتظاهر سيحصل لكم مثلما حصل في ليبيا واليمن وسورية’، لكن السودان حسم أمره ورأى أنه لا يمكن استبدال الحرية بأمان متوهم في ظل أنظمة استبدادية”.
تعلم السودانيون الدرس
وخلص أبو بكر قائلًا: “السودانيون قرروا وقف العبث. السودانيون يحاولون الآن بالقيام تجربتهم الخاصة للربيع العربي. السودان هو رئة جديدة للربيع العربي قد تنعش آمال المصريين والسوريين واليمينيين والليبيين.. وكل الشعوب في المنطقة العربية”.
سنّة الله في الأرض، الماضية في كونه وعباده، أن تغرب الشمس لتشرق في مدى معلوم، وأن دولة الظلم ساعة فحسب، وأن الله لا يظلم عباده وإنما هم يظلمون أنفسهم، وأن متغيرات النظام العالمي الجديد علمت الشعوب التي اضطهدها حكامها الغاصبون أن الطريق إلى الحرية يلغي المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية، ولا يعبأ بإرث تخوين الاستعانة بالأجنبي، وليس فيه قبول لادعاءات الأنظمة المتسلطة بحقها في مقاومة المتمردين عليها من أبناء شعوبها.
المؤسف أن النظام في السودان زج بأسلحة القبلية في لعبة بقائه، لقد تعلم السودانيون من الأيام والتجارب أن الثورة لا تتقيد بالمجيء في فصل لا وجود له أصلاً في السودان، وأنها تأتي في قيظ الصيف، وزمهرير الشتاء، وفي عز مطر الخريف، هل ستبقى أعين الغاصبين مفتوحة طوال فصول العام؟!