تتجه العلاقات السعودية الأمريكية نحو تطورات سريعة ومفاجئة منذ صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد بعد الإطاحة بابن عمه ولي العهد السابق محمد بن نايف بدعم أمريكي واسع منتصف عام 2017م.
هذه العلاقة تحولت من معادلة الحماية مقابل النفط التي تم تدشينها في فبراير سنة 1945 بين مؤسس الدولة السعودية عبدالعزيز بن سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن المدمرة الأمريكية كوينسى التي رست في قناة السويس وقتها. وخلال اللقاء الذى امتد لخمس ساعات وضع الطرفان أُسس التحالف الاستراتيجى بين الدولتين وهو ما صمد أمام تغيرات دولية كبيرة وهزات عنيفة فى علاقات الرياض بواشنطن الثنائية. وتمحورت العلاقة الاستراتيجية حول علاقة خاصة تضمن بها واشنطن أمن السعودية وأمن حدودها، مقابل توفير النفط للولايات المتحدة وللأسواق العالمية بأسعار مناسبة.
هذه المعادلة صمدت أمام الأحداث الجسام التي وقعت خلال السبعين سنة الماضية، مثل حرب أكتوبر وحرب الخليج وتغير النظم ، لكن التحول الأكبر جرى في أعقاب صعود كل من دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة في يناير 2017م ، والتحالف الوثيق الذي تم بين محمد بن سلمان ولي ولي العهد وقتها مع جاريد كوشنر ــ صهر ترامب ــ اليهودي والموالي لإسرائيل والذي ينتمي إلى اليمين المتطرف الداعم لإسرائيل.

ورغم التجريح والتطاول والبذاءة التي اتسمت بها الدعاية من جانب ترامب بحق الإسلام والمسلمين وحتى السعودية، إلا أن الرياض أبدت ترحيبا واسعا بفوز ترامب تأثرا بولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي تربطه علاقات وثيقة للغاية بالكيان الصهيوني.
أخذت العلاقة بين بن سلمان وكوشنر بعدا شخصيا، وهو ما أدى إلى دعم البيت الأبيض لصعود بن سلمان وليا للعهد على حساب بن نايف، ثم دعمت واشنطن اعتقال عشرات الأمراء من جانب بن سلمان واعترف ترامب بدور بلاده في صعود بن سلمان وأثنى كثيرا على دور السعودية في حماية “إسرائيل” من جهة ودفع مليارات الدولارات من أجل مواجهة ما يسمى بالإرهاب من جهة ثانية، وتشددها ضد تمدد النفوذ الإيراني من جهة ثالثة، وتوفير النفط بأسعار مناسبة من جهة رابعة.
ما بعد خاشقجي
لكن هذه العلاقة أخدت بعدا أكثر جنوحا وشخصنة بعد تورط النظام السعودي وولي العهد محمد بن سلمان في قتل الصحفي جمال خاشقجي، في مقر قنصلية الرياض في إسطنبول التركية مطلع أكتوبر 2018م، واتضح ذلك بشدة في المحاولات المستميتة من جانب ترامب في التستر على تورط بن سلمان في الجريمة؛ فقد كان أول اخترع أكذوبة “القتلة المارقين” والتي تستند على أن بعض المسئولين السعوديين تورطوا في قتل خاشقجي دون علم أو معرفة ولي العهد، وهي النظرية التي اعتمدت عليها الرياض بعد ذلك رغم الأدلة الدامغة التي تؤكد تورط بن سلمان، منها مثلا أن الجريمة تم التخطيط لها مسبقا وأن القرار تم اتخاذه في الرياض وليس نتيجة شجار مفاجئ أدى إلى قتل خاشقجي، وإلا فلماذا جاء 3 فرق سعودية إلى اسطنبول؟ ولماذا كانت معهم أدوات القتل و منشار تقطيع العظام؟ ولماذا كان معهم حقن تجليط الدم وخبيرين أحدهما في السموم والآخر في التشريح؟
هذه الأدلة الدامغة جعلت خلاصة المخابرات المركزية الأمريكية تتوصل إلى أن محمد بن سلمان هو من أمر بالجريمة استنادا إلى أنه يتحكم بشكل مطلق في مفاصل الحكم في بلاده، وكذلك تورط قيادات أمنية مقربة في الجريمة وهي لا يمكن أن تتحرك إلا بأمر مباشر منه، وكذلك ما تردد عن اعتراض مكالمة بين بن سلمان وأخيه خالد يطالبه بإسكات خاشقجي.
لكن ترامب ضرب بكل ذلك عرض الحائط، وأخد بنفي بن سلمان المتوقع والطبيعي في مثل هذه الحالة، ورجحه على ما انتهت إليه خلاصة تقييم المخابرات المركزية. كما ادَّعى ترامب أنَّ ولي العهد السعودي «يكره» الجريمة، وعملية التستُّر عليها «أكثر من كرهي لها» -وهو ما يبدو أشبه بتبرئةٍ لساحة محمد بن سلمان- ووَصَفَ استنتاجات وكالة الاستخبارات المركزية بأنَّها مجرد «مشاعر». وفق ما قال الكاتب الأميركي غريغ سارجنت، في مقالة له نشرتها صحيفة The Washington Post الأمريكية.
ترامب قدم المصالح الأمريكية على القيم والأخلاق في القضية، وقد برر انحيازه لبن سلمان بأن ذلك ضمانا لأمن “إسرائيل” ورعاية للمصالح الأمريكية والصفقات الضخمة التي أبرمتها الرياض مع واشنطن منها صفقة سلاح تقدر بحوالي “110” مليارات دولار ، وكذلك ضمان توفير النفط بأسعار مناسبة، إضافة إلى دور الرياض في مواجهة عدوين لإسرائيل هما إيران والحركات الإسلامية.

هل يقلب الديمقراطيون الطاولة؟
الكاتب الأميركي، غريغ سارجنت، في مقاله في صحيفة The Washington Post الأميركية، ينقل بعضاً مما دار بينه وبين النائب آدم شيف، الرئيس المقبل للجنة الاستخبارات في مجلس النواب، حيث سيسطر الديمقراطيون على الكونجرس بدءا من يناير المقبل، وتضمنت مايلي:
أولا، اللجنة ستبحث أكثر في ملف قتل خاشقجي، وستحاول الإلمام بقدرٍ أكبر من التفاصيل، خاصةً تلك المتعلقة بما توصَّلت له أجهزة الاستخبارات، ومدى قوة الأسس التي بَنَت عليها استنتاجاتها. وسيكون بعد ذلك لدى أعضاء الكونغرس فهم أفضل بشأن ما إذا كان ترامب يتعمَّد تحريف هذه النتائج لحماية ولي العهد أم لا، وكيف يتصرّف بهذه الجرأة إن كان هذا صحيحاً.
ثانيا، اللجنة ستبحث أسئلة أكثر بكثير، تتعلق بعلاقة الولايات المتحدة مع السعودية، وأداء هذه الأخيرة في ملفاتٍ أخرى. وتعهَّد شيف «بالغوص عميقاً بخصوص السعودية»، وبأنَّ الكونغرس سيبحث أيضاً «الحرب في اليمن»، و»مدى استقرار عائلة آل سعود»، و»كيف تتعامل المملكة مع منتقديها والصحافيين بشكلٍ عام».
ثالثا، سيركز الديمقراطيون على التشابكات المالية الدولية لترامب -في الشأن السعودي وغيره- وسيحتاج الكونغرس إلى التبيّن من حقيقتها. بالتأكيد إذا كانت الاستثمارات الأجنبية في أنشطة ترامب التجارية تُوجِّه السياسية الأميركية بطريقةٍ تتناقض مع مصالح البلاد، فإنَّ علينا معرفة هذا».
ترامب من جانبه تمادي في الدفاع عن بن سلمان وعندما سئل عن من يجب محاسبته في هذه الجريمة أجاب: «ربما ينبغي محاسبة العالم لأنَّه مكانٌ وحشي للغاية»!. مضيفا أنه يتوجب عليه حماية مصالح أمريكا أولا، وهي إجابة تستهدف عدم اتهام ولي العهد والاستثمار في بقائه على رأس هرم السلطة السعودية حيث يتمكن من ابتزازه باستمرار.
لكن تبقى هذه العلاقة الشخصية قائمة؟ وإلى أي مدى؟ فترامب ربما يرحل بعد سنتين أو 6 سنوات على أقصى تقدير، فكيف سيتم بناء العلاقات السعودية الأمريكية، هل ستعود إلى المعادلة السابقة النفط مقابل الحماية أن المستقبل يحمل خفايا كثيرة ربما تكون عواقبها وخيمة للغاية على سلمان وولي عهد المنشار؟!