أثر التربية والتعليم في النهوض الحضاري (الدولة الزنكية نموذجا)

- ‎فيمقالات

أدرك المشرفون على عملية التغيير وفقه النهوض: أن عزّ هذه الأمة وقوتها في تمسكها بدينها وعملها بكتاب ربها وسنة نبيها وأن الجيل الأول من سلف هذه الأمة لم ينتصر على عدوه إلا بقوة العقيدة، وأن النصر والتأييد والتمكين لهذه الأمة مقرون بالالتزام بعقيدة التوحيد الخالصة والعمل بمقتضاها، وأن هذه الأمة تكون هدفا للسهام، وطعمة لسيوف الأعداء بمجرد الزيغ عن هذه العقيدة والانحراف عن هذا المنهج، وأن الهزائم التي حلت بالمسلمين أمام حملات الصليبيين كانت ثمرة طبيعية، ونتيجة حتمية للانحراف العقائدي والفساد الفكري الذي أصاب الأمة.

وقد ألهم الله قادة الأمة من أمثال نور الدين محمود إلى إدراك دور العقيدة الصحيحة في صناعة النصر، وأن الأمة بدونها تتحول إلى قطيع من الأغنام لا تقوى على شيء، ولذلك فإن أول ما بدأت به عملية التغيير والإصلاح والتجديد هو إعادة بناء العقيدة في النفوس وإعادة صياغة الإنسان المسلم على التوحيد الخالص بتجديد العقيدة في نفوس الناس وإزالة كل ما علق بالنفوس من بدع وعقائد فاسدة، ولذلك راحوا يواجهون التحديات الباطنية في إفساد العقائد الإسلامية بنشر العقيدة الصحيحة، عن طريق مؤسسات تجسد العقيدة في النفوس، وواقع الحياة اليومية عن طريق التعليم الإسلامي النقي في عدد من المدارس والمساجد، تم إنشاؤها وإعدادها لهذا الغرض، قام بالتدريس فيها صفوة من علماء الأمة وخيرة مفكريها.

وقد كانت بداية حركة الإصلاح والتجديد على يد السلاجقة السنة الذين زحفوا على بغداد، واستنقذوا الخليفة العباسي من الأسر والذل الفاطمي الرافضي الشيعي بعد الانقلاب الذي دبرته الدولة الفاطمية على يد القائد العسكري البساسيري الذي تشيع وترفَّض واعتنق المذهب الإسماعيلي، وقد هدى الله قادة تلك الدولة السلجوقية السنية إلى أن السيوف تفلُّ السيوف وأن الحجة لا تقرع إلا بالحجة، وأن الأفكار والعقائد لا بد من غرسها عن طريق التعليم والتربية والتهذيب، لا بالسيف والسِنان، خصوصا وأن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الحق، ودين الله تعالى الذي بعث به رسوله، فأنشؤوا لهذا الغرض ما عُرف باسم المدارس النظامية، نسبة إلى الوزير العظيم نظام الملك، وقد تحدثتُ عن سيرة نظام الملك، والمدارس والنظامية، في كتابي: «دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي».

وإلى جانب نظام الملك كان هناك العشرات من الذين تولوا الإدارة والجيش والقضاء والحسبة، وآخرون تولوا القيام على المدارس النظامية، كالإمام الجويني وأبي إسحاق الشيرازي وأبي القاسم القشيري والإمام الغزالي وغيرهم، ولقد واجهت الدولة السلجوقية ورجالها العظام الخطر الفاطمي الباطني، الذي انتشر في مختلف البقاع الإسلامية، لقد كانت المدارس النظامية والحركة المباركة التي قادها السلاطين السلاجقة ـ من أمثال ألب أرسلان ـ مع العلماء، لمواجهة التحدي الفاطمي الرافضي الباطني أطيب الأثر في وضع الأمة على الطريق الصحيح، الذي سار عليه من بعدهم رجال من القادة السياسيين والعلماء العاملين المخلصين، فكانت لتلك الشجرة الطيبة الكثير من الغصون والثمار التي طابت وأينعت وامتدت ونمت وتفرعت؛ حتى عمَّ خيرها الجميع. 

وعندما جاء نور الدين للحكم استفاد من الجهود العلمية والتربوية التي سبقته، وأدركت دولته أن التعليم هو الدعامة الأساسية في بناء الشخصية المتكاملة من جميع النواحـي العقائدية، والثقافية، والفكرية…إلخ، واعتبرت الإنسان الكنز الذي لا يُقدر بأي ثمن، فجعلتـه مدار اهتمامها، وقطب الرحى في تفكيرها، فعمدت إلى بناء المؤسسات التعليمية من مدارس، ودور القرآن والحديث، وأحيت رسالة المسجد؛ ليسهم في عملية البناء، والتصحيح الجديدة، وتوجيه وتوعية الأمة وتعبئتها تعبئة عامة شاملة لمواجهة الأخطار ومجابهة التحديات الداخلية الباطنية والخارجية الصليبية، وكونت مجلسا عاما يشرف على العملية التعليمية، والصياغة التربوية، يضم أهل الحلِّ والعقد، وهيئة كبار العلماء العاملين المخلصين والقادة العسكريين والفقهاء والشيوخ المستنيرين، وكان نور الدين أحد أعضاء هذا المجلس الأعلى، الذي يشرف على التخطيط العام والشامل، وكان يجلس مع العلماء والشيوخ، يتدارسون الأمور إلى ما يحقق المصلحة الإسلامية.، ورسم هذا المجلس الأعلى للتخطيط والتنسيق بين السياسات العامة الواجب اتباعها نحو إعداد الأمة الإسلامية، كلها إعدادا جديدا وبنائها بناء سليما على طريقة السلف الصالح، فقرروا ضرورة تأسيس مئات المدارس، ونشر التعليم الإسلامي، في جميع أنحاء البلاد، كما قرروا إقامة مئات المساجد للقيام بواجب التزكية، والتحلية بالفضائل والتخلية من الرذائل، واستقدموا آلاف العلماء والمربين المشهورين؛ للقيام بواجب التدريس في المدارس والتوجيه في المساجد، وكانوا من خريجي المدرستين الغزالية والقادرية.

ولم يكن التعليم لدى دولة نور الدين مجرد نشاط أكاديمي، يستهدف توفير الموظفين والمهنيين، وإنما كان بالدرجة الأولى نشاطا عقائديا، استهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة، بما يتفق وأهداف الإسلام والحاجات القائمة، وكانت الصفة الجماعية للنشاط التعليمي الذي رافق الدولة الزنكية تبدو واضحة من تباري الوزراء القادة والأغنياء والرجال والنساء في إنفاق أموالهم في بناء المدارس والمؤسسات التعليمية، وتوفير الفرصة لجميع أفراد الأمة، لدخولها والاستفادة منها.

فقد أعطت الخطة الزنكية أهمية خاصة لتعليم كافة المسلمين من عمال وفلاحين ومزارعين من الكبار والصغار والرجال والنساء، وعملت الخطة على تعليم الجميع أصول العقيدة وأركان الدين والقيم والمبادئ الإسلامية، كما عمدت الخطة الحكيمة إلى تعرية المذاهب الهدامة والفرق الضالة من إسماعيلية باطنية وشيعية إمامية وشعوبية، وأبانت عن خطرها وضررها على النفس والمجتمع والأمة وأن لا خروج من المحنة، ولا خلاص من الضياع إلا بالعودة إلى روح الدين النقية الطاهرة، في صورتها الأولى، التي كان عليها سلف هذه الأمة، دون زيادة أو نقصان، ودون تعقيدات، فلسفية ومجادلات كلامية لا طائل من ورائها ولا خير فيها ولا في مروّجيها.

لقد التزمت الدولة الزنكية بالإسلام عقيدة وعملا ومنهجا، والتزمت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للجميع، فأصلحت ما يمكن إصلاحه من أصحاب الاتجاهات والفلسفات كالصوفية المنحرفة، التي استطاعت الدولة الزنكية أن تنقيها مما علق فيها من أتباع الفكر الإسماعيلي الباطني، فأقامت لشيوخها الزوايا والأربطة، وأنفقت عليهم الأموال وأمدتهم بالعطايا والهبات وأخرجت التصوف من أسر الفكر الباطني، وبذلك أصبحت المؤسسات الصوفية تؤدي دورها التربوي ونشر السلوك الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة، إلى جانب المدارس والمساجد في التوجيه والإرشاد والتعليم والتهذيب حسب الخطة العامة للدولة، وتحت إشراف المجلس التعليمي الأعلى.

لقد وجه التعليم الإسلامي عناية خاصة لإعداد الأمة كلها للجهاد بكافة أنواعه من الإعداد المادي والمعنوي وتربية النفوس ومجاهدتها في ذات الله ومجاهدة الشيطان والجهاد بالمال والنفس والتعبئة الروحية العالية وتربيـة الإرادة القتالية عند جميع أفراد الأمة دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى، بالإضافة إلى طائفة مختصة اعتنت الدولة بإعدادها إعدادا قتاليا خالصا، وتدريبها تدريبا عسكريا متميزا يجعلها تتفوق على ما يملكه الأعداء.