شعبان عبد الرحمن يكتب: جامعة العلم والفكر والإنصاف.. د. شفيق الغبرا يرحمه الله!

- ‎فيمقالات

يعد الدكتور شفيق ناظم الغبرا، المفكر وأستاذ العلوم السياسية المعروف الذي رحل عن دنيانا قبل أيام (1953م – 4 سبتمبر 2021م) من الحالات الفريدة وسط المفكرين والأكاديميين والوطنيين.. صنعها ذلك المخزون الثقافي الثري والمتنوع وتجاربه العميقة في العمل الأكاديمي كأستاذ للعلوم السياسية ومؤسس للجامعة الأمريكية في الكويت، ومدير لواحد من أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، وكذلك العمل الدبلوماسي كمدير للمكتب الإعلامي الكويتي في العاصمة الأمريكية واشنطن 1998م، إضافة إلى خبرته في العمل الإعلامي ككاتب منتظم في الصحافة العربية، ورئيس لتحرير مجلة العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت 2002م.

كل هذه الأعمال والأنشطة العلمية والفكرية والثقافية الواسعة والمتشعبة فتحت له آفاقا واسعة للاحتكاك والانخراط بالمجتمعات العربية والغربية، بتنوعاتها الفكرية وتوجهاتها السياسية، وهو ما صقل تفكيره ونظرته للأمور بموضوعية، فلم ينجرف في مناوشات تيارات العمل السياسي المتصارعة، وظل محتفظا بموضوعيته واعتداله وعدله – وهو الليبرالي المعروف – ملزما نفسه بكلمة الحق في تناول مختلف القضايا، وخط لنفسه خطا أصيلا في الانحياز لحقوق الإنسان وحرية التعبير.

هو كأحمد نبيل الهلالي المحامي الاشتراكي المصري – يرحمه الله – الذي لم يتخلف عن التصدي لقضايا الحريات وحقوق الإنسان بصرف النظر عن توجه أصحابها خاصة الإسلاميين.. ومثل محمد الدماطي، المحامي – يرحمه الله – الذي لم يمنعه خلافه الفكري من قيادة فريق الدفاع عن الرئيس الشهيد محمد مرسي يرحمه الله، بعكس دعاة كبار تزيوا بأزياء الدعاة وذاع صيتهم بين الجماهير ولكنهم حرّضوا علي قتل الأبرياء واجتثاثهم، وفتحوا الطريق بفتاواهم الظلامية الجائرة لمجازر لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا، لكن مواقف رجل مثل شفيق الغبرا كشفت الزيف وعدلت الميزان.

ولعل مقاله الشهير بجريدة القدس العربي "الإخوان المسلمون وقضية الاجتثاث" (8 يوليو 2020م) نموذج لتلك المواقف الأصيلة، وبصرف النظر عن تصديه للدفاع عن حقوق أكبر فصيل إسلامي في المنطقة، إلا أنه أصل لقضية اجتثاث الخصوم بعد شيطنتهم لسبب واحد؛ هو الخلاف في الرأي والتوجه الذي تحوله المصالح أو المطامع السياسية إلى شيطنة الخصم أيا كان توجهه.

تناول في مقاله بالتحليل الحملة الدائرة على الإخوان المسلمين وغيرهم من فصائل وشخصيات العمل الوطني في الوطن العربي، منتقدا "استهداف شخصيات من الإخوان المسلمين في طول وعرض الوطن العربي، دون وجود مبررات لاستمرار هذه الشيطنة التي تعطي الانطباع وكأن الإخوان المسلمين وراء أزمات مصر والإقليم التي تضاعفت منذ 2013م.. لم يكن هناك أي مبرر لترك الرئيس محمد مرسى يموت بهذه الطريقة في سجنه، كما لم يكن هناك مبرر لاعتقال القيادي المصري المتزن عبد المنعم أبو الفتوح الذي ترك الإخوان في 2011م، ولم يكن هناك مبرر لاعتقال ناشط حقوقي كعلاء عبد الفتاح، أو كما لم يكن هناك مبرر لعشرات الألوف من الاعتقالات في طول الوطن العربي وعرضه والتي تعكس وجود أزمة عميقة لن تختفي في المدى المنظور".

ووضع يده على أصل الداء المتمثل في أن "الكثير من الدول العربية لا تميز بين العمل السياسي السلمي والرأي المستقل وبين السلوك العنيف، وهي تضع كل من ينتقد سلطة أو حكومة في سلة واحدة مع كل من يقوم بعمل عنيف وإرهابي".

وتوقف طويلا عند مخاطر الاجتثاث على الدول والمجتمعات قائلا: "يجب الحذر من روح الاجتثاث والتعميم العام على تيار مدني لديه عمق اجتماعي لا يمكن الالتفاف عليه.. لكن روح الاجتثاث سترتد على الذات، وستكشف أبعاده في المدى المنظور.. هل استفاد العراق من سياسة اجتثاث البعثيين أم نتج عن ذلك حرب أهلية وسيطرة تيارات أخرى وإيران بصورة شاملة؟ وماذا استفادت سوريا من اجتثاث الإخوان ومجازر حماة 1982م، ففي حماة 1982م بالتحديد بدأت بوادر الثورة السورية 2011م.. وفي المقابل مهما كانت فاعلية الاجتثاث، إلا أنه مؤقت ويخدم أولا الدول الإقليمية الساعية لتوسعة نفوذها، كما أنه يخدم أنصار التغيير الشامل أكان سلبيا أم إيجابيا. لنتذكر أن اجتثاث البعث العراقي أنتج داعش وأخواتها وساهم بتمدد إيران الإقليمي.. والأمر نفسه ينطبق على تيار الإخوان، فالاجتثاث لن ينهي ذلك التيار، بل سيؤدي لتيارات جديدة أقل مرونة.

لو كان الاجتثاث مفيدا لاجتثت أمريكا التيار الديني الإنجيلي الأكثر تطرفا، بل لو كان الاجتثاث منطقيا لاجتثت الصهيونية تياراتها الدينية المتطرفة والدينية.. إن التعددية وبناء مساحة ضمن الاختلاف لا بديل عنها لاستقرار دول الخليج كما ودول عربية عدة، وما الدعوة لإلغاء التعددية والتحريض عليها إلا حل قصير المدى لمحبي السيطرة المطلقة، لكن ذلك سيؤدي لأزمات ستعبر عن نفسها بمزيد من التفكك والحروب الأهلية العربية العربية".

وهكذا يسجل التاريخ المواقف المنصفة في أنصع صفحاته.. رحم الله الدكتور شفيق ناظم الغبرا.