يرى الكاتب الأمريكي توماس فريدمان أن منطقة الشرق الأوسط يعاد تشكيلها من جديد مطالبا الجميع بانتهاز الفرصة؛ لأن هناك شيئا ما في الجو يعيد تشكيل قطع الشطرنج بقوة على الرقعة في الشرق الأوسط، لافتا إلى أن القطع التي تجمدت في مكانها لسنوات يعاد تشكليها من جديد. وينقل الكاتب عن مارتن إنديك، مبعوث الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط، والذي يُعتبر كتابه الجديد، "سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط"، تاريخا رائعا لكيفية استخدام أمريكا لصنع السلام لتحل محل الاتحاد السوفيتي كقوة أجنبية مهيمنة في المنطقة، قوله: "لن تنسحب أمريكا بالكامل، لكنها تتراجع، وجميع شركائها العرب السنة يعملون الآن لحماية أنفسهم ولتحقيق الاستقرار في المنطقة في عصر لن تكون فيه أمريكا مهيمنة هناك".
وبحسب الكاتب في مقال له نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" فإن أكبر قوة تحرك هذه التحولات هي قرار الرئيس الأمريكي جوبايدن الانسحاب من أفغانستان، وإرسال رسالة للمنطقة تقول أنتم وحدكم، إذا كنتم تبحثون عنا، سنكون في مضيق تايوان. راسلونا واستمروا في إرسال النفط. وداعا". لكن الكاتب يضيف أسبابا أخرى تدفع بهذه التحولات وتزيد من ضغوط مغادرة أمريكا، أبرزها موجات الحر والجفاف والضغوط الديموغرافية وانخفاض أسعار النفط على المدى الطويل وارتفاع حالات كورونا".
بحسم يقول الكاتب : «في الواقع، يمكنني أن أزعم أننا بصدد الانتقال من شرق أوسط شكلته قوى عظمى إلى شرق أوسط تشكله الطبيعة. وسيجبر هذا التحول كل قائد على التركيز أكثر على بناء المرونة البيئية لاكتساب الشرعية بدلا من اكتسابها من خلال مقاومة الأعداء القريبين والبعيدين». ويرى أننا ما زلنا في بداية هذا التحول النموذجي من المقاومة إلى المرونة، حيث بدأت هذه المنطقة في أن تصبح شديدة الحرارة، ومكتظة بالسكان، ومتعطشة للمياه بدرجة لا تسمح لها بالحفاظ على نوعية الحياة".
ويرى الكاتب أن بايدن كان على حق بوصف الوجود الأمريكي في أفغانستان والضمانات الأمنية الضمنية في جميع أنحاء المنطقة يعملان على تحقيق الاستقرار وتمكين الكثير من السلوك السيئ المقاطعة والاحتلال والمغامرات المتهورة والتدخلات الوحشية". مشيرا إلى أن الدعم الأمريكي القوى للحلفاء التقليديين، سواء كانوا يتصرفون بشكل سيئ أو جيد، شجع هذه الحكومات على تجاوز قدرتها، دون خوف من العواقب. وضرب الكاتب أمثلة على ذلك أبرزها التدخل السعودي الإماراتي في اليمن ومقاطعتهم لقطر، وتركيا في ليبيا، والرفض الغبي للحكومة الأفغانية التي سقطت الآن للتفاوض مع طالبان وتوسيع إسرائيل المستوطنات في عمق الضفة الغربية".
ويرى أن انسحاب الرئيس باراك أوباما من المنطقة ورفض الرئيس دونالد ترامب الانتقام من إيران بعد أن أرسلت موجة من الطائرات بدون طيار لمهاجمة منشأة نفطية سعودية رئيسية في عام 2019 كانت من علامات التحذير على أن أمريكا قد سئمت من التدخل والتحكيم في الحروب الطائفية في الشرق الأوسط. وجعل بايدن ذلك رسميا.
ويعتقد الكاتب أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة هو ما يدفع نحو عمليات التصالح الجارية وفق قاعدة "أفضل ما في الانفصال هو التصالح"؛ حيث بدأت السعودية في إصلاح علاقاتها المقطوعة مع إيران وقطر، وتقليص مشاركتها في اليمن. وانسحبت الإمارات من الصراعات في ليبيا واليمن، وأصلحت علاقاتها مع إيران وقطر وسوريا. وكان العراق يتوسط بين إيران والسعودية. وتدرك كل من الإمارات والسعودية أنه مع انسحاب أخيهم الأكبر الأمريكي، لا يمكنهم تحمل الأعمال العدائية مع إيران الأكبر، ويدرك الإيرانيون أنه مع استمرار تعرض بلادهم للعديد من العقوبات، فإنهم بحاجة إلى أكبر قدر ممكن من الانفتاح على العالم. أقامت كل من البحرين والإمارات علاقة مفتوحة مع إسرائيل، وأقامت السعودية علاقة سرية. وفي نفس الوقت تعمل مصر وإسرائيل معا لنزع فتيل التوتر مع حماس في غزة.
ورغم بعض النتائج الإيجابية لهذه الانسحاب الأمريكي إلا أنه قد يفضي أيضا إلى بطاقة خروج من السجن مجانية للرئيس السوري المنبوذ منذ فترة طويلة والمدعوم من إيران، بشار الأسد، الذي اتهم بارتكاب إبادة جماعية في قمع تمرد قام به شعبه. لأول مرة منذ عقد، تلقى الملك عبد الله ملك الأردن مؤخرا مكالمة هاتفية من الأسد. وقال القصر الأردني إنه تم "بحث العلاقات الأخوية بين البلدين". وبحسب الكاتب فإن القاهرة وعمان ترغبان في فطم سوريا والعراق عن إيران الشيعية، وتريد مصر أيضا تصدير غازها إلى لبنان، ويريد الأردن الذي يعاني من ضائقة مالية إعادة العلاقات التجارية المربحة مع سوريا. هذه التحولات أدت أيضا إلى أن مصر والسعودية والإمارات أخرجت علاقاتها مع تركيا من حالة الجمود العميق، على أمل إعادتها إلى الحظيرة الإقليمية كقوة سنية موازنة لإيران. ومع ذلك، ربما تعتقد إيران أن أمريكا، في حين أنها ستبقي على العقوبات، قد فقدت أي استعداد للقيام بعمل عسكري لكبح مساعي طهران لتخصيب ما يكفي من اليورانيوم لتصبح على عتبة امتلاك أسلحة نووية. الأمر الذي يدفع واشنطن نحو الحاجة إلى ردع إيران إذا طورت قدرتها النووية. وينتهي الكاتب إلى أن (الطبيعة) تحل محل أمريكا باعتبارها القوة المهيمنة في إعادة تشكيل المنطقة من جديد. من خلال الكوارث الطبيعبية مثل الجفاف وارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفشي جائحة كورونا والتغيرات المناخية وارتفاع منسوب مستوى البحر، واحتمال نشوب حرب مياه بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة.
خلاصة الأمر، يتعين التنويه والتنبيه إلى أن التحليل يرتكز على أسس علمانية واضحة تعطي للطبيعة صفات وخصائص الألوهية باعتبارها ذات إرادة وقدرة نافذة، دون الاعتراف بأن خالق الكون هو وحده فقط صاحب القدرة المطلقة في إعادة تشكيل المنطقة وكل ما يجري في هذا الكون، لكن الغرب لا يعترفون بمثل هذا التفسير باعتباره تفسيرا خرافيا يناقض الأسس العلمانية التي يروجون لها ويفرضونها قهرا على باقي شعوب الأرض.
