منذ خمسينات القرن الماضي يتلقى أهالي النوبة المصرية الصفعة تلو الأخرى من قبل الأنظمة المصرية المتعاقبة، فتارة بالتهجير ورفض توطينهم في أماكن قريبة من ديارهم حول السد العالي، إلى المطاردة في الشوارع والاعتقالات سواء بمسيرة الدفوف أو بشوارع القاهرة، من أجل قمع أي صوت أو ألم ينوء به النوبيون.
إدمان القمع
وسط دعوات خادعة من قبل نظام المنقلب السفاح السيسي الذي أدمن القمع لجميع المصريين، إلى أن جاء اعتقال 10 من النوبيين بالسعودية، دون أن يحرك نظام الانقلاب ساكنا أو تتدخل وزارة خارجيته، وسط انتقادات حقوقية دولية لممارسة القمع وصمت الانقلاب عن حماية حقوق أبنائه المهدرة بالخارج والداخل.
حيث بدأت الأربعاء محاكمة المعتقلين النوبيين بالسعودية، باتهامات الإرهاب ، وذلك أمام محكمة جزائية متخصصة، والتي تصفها منظمة العفو الدولية بأنها أداة قمعية تستهدف سياسيين ونشطاء وصحفيين، وذلك بعد 16 شهرا من حبسهم، دون السماح لهم بالوصول إلى محامٍ، أو استقبال زيارات من عائلاتهم أو إجراء مكالمات هاتفية منتظمة معهم، بحسب بيان المركز الحقوقي الخليجي.
فيما طالبت العفو الدولية السعودية بحماية الأقليات العرقية والهويات الثقافية واللغوية وضمان حقوقهم الأساسية في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات.
وتعود القضية إلى 25 أكتوبر 2019، حين عقدت الجمعية النوبية في الرياض ندوة بمناسبة حرب السادس من أكتوبر، وتم تجهيز «بانرات» لصور أبرز من شاركوا في الحرب من المصريين النوبيين، وكان أعلاهم رتبة عسكرية المشير محمد حسين طنطاوي. لكن قوات الأمن السعودية قبضت على عدد منهم، وأُخلي سبيلهم بعد شهرين، قبل اعتقال العشرة في يوليو 2020.
وحاء القبض عليهم بسبب، عدم وضع صورة المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي، واعتُقل أربعة منهم ما بين أكتوبر وديسمبر 2019، ومُنعوا جميعا من السفر، قبل اعتقالهم مجددا هم وباقي العشرة.
وأوضح قريب أحد النوبيين العشرة أنهم سيحاكمون أمام محكمة استثنائية، تشبه دوائر الإرهاب في مصر، مضيفا أن اثنين فقط من المتهمين نجحا في توكيل محامين، أما الباقون، فانتدبت المحكمة لهم محامين، مفسرا ذلك برفض المحامين لهذه القضايا الأمنية، وارتفاع أسعار أتعاب المحاماة التي طلبها المحامون الذين حاولوا توكيلهم هناك.
استمرار الاحتجاز
من جانبه دان مركز الخليج لحقوق الإنسان، في بيانه، استمرار احتجاز النوبيين العشرة ومحاكمتهم في انتهاك لحقهم في التجمع السلمي، مطالبا بالإفراج الفوري وغير المشروط عنهم.
وكان عدد من المنظمات الحقوقية المصرية قد طالب بإخلاء سبيلهم الشهر الماضي، بعد توجيه عدد من الدعاوى ضدهم وتحديد جلسة محاكمتهم.
ولا تراعي مصر في تعاملها مع النوبيين التزاماتها الدستورية المنصوص عليها في المادة 236 من الدستور، وكذا التزاماتها وفق القانون الدولي، والمعايير الواردة بالاتفاقية رقم 107 لسنة 1957 لحماية السكان الأصليين والقبليين، والاتفاقية رقم 169 لسنة1989 بشأن الشعوب الأصلية والقبلية في البلدان المستقلة، وإعلان الأمم المتحدة للشعوب الاصلية الصادر في 2007، والتي تقتضي جميعها تمكين النوبيين من العودة إلى أراضيهم الأصلية وتنميتها، وذلك خلال الفترة التي حددها الدستور بـ10 سنوات مضى ما يزيد عن نصفهم، وعدم الالتفاف على تلك الحقوق عبر آليات التعويض المختلفة، حيث إن تعويض النوبيين بسكن أو أموال أو أراضي بديلة، لا يعد بديلا عن حق التوطين، والذي لا يمثل فقط التزام دستوري، وإنما جزء أصيل من تراث النوبيين وهويتهم وثمرة نضالهم سنوات من أجل انتزاع اعتراف بحقوقهم ومعاناتهم وتهجيرهم.
فرغم الاعتراف الدستوري بحق النوبيين في العودة إلي أراضيهم الأصلية وتنميتها، ألا أن السلطات المصرية انتهجت مجموعة من السياسات والقرارات التي تقوض بشكل فج هذه الحقوق، بداية من القرار الجمهوري رقم 444 لسنة 2014 الذي اعتبر أراضي 16 قرية نوبية أراض حدودية عسكرية، لا يجوز للمدنيين العيش فيها أو الاستفادة منها، مرورا بقراري رئيس الجمهورية رقم 355 و 498 لعام 2016، واللذان صادقا على مصادرة العديد من الأراضي النوبية لصالح مشروع المليون ونصف فدان، وصولا للقانون رقم 157 لسنة 2018 بشأن إنشاء هيئة تنمية الصعيد والذي عصف بآمال النوبيين، بعدما غفل أي ذكر لهجرة النوبيين أو حقهم في العودة إلى أراضيهم، الأمر الذي يمكن وصفه بالقانون غير الدستوري، وأنه يمثل اغتصابا لحقوق أهالي النوبة في إعادة تسكينهم على ضفاف بحيرة ناصر.
صرف تعويضات
في 20 يونيو 2019 وفي مؤتمر صحفي عقب اجتماع مجلس الوزراء، صرح الوزير المستشار عمر مروان، وزير شئون مجلس نواب العسكر ورئيس اللجنة الوطنية المعنية بوضع القواعد والآليات التنفيذية لصرف تعويضات أهالي النوبة، انذاك، أنه خلال الاجتماع تم اعتماد إجراءات صرف التعويضات لأهالي النوبة المتضررين من بناء وتعلية خزان أسوان وإنشاء السد العالي، ممن لم يسبق تعويضهم، ووفقا لتصريحات مروان جاء ذلك تنفيذا لتوجيهات السيسي للحكومة بحل مشكلة أهالي النوبة، وقرارات رئيس مجلس الوزراء رقم 478 لسنة 2017 الخاص بتشكيل لجنة برئاسة وزارة العدل لحصر أسماء المتضررين الذين لم يسبق تعويضهم، و قرار رئيس الوزراء رقم 371 لسنة 2019 المعني بتشكيل لجنة لوضع قواعد وآليات تنفيذية لصرف التعويضات للمستحقين، برئاسة وزير شئون مجلس النواب، واعتمدت اللجنة أسماء المستحقين الذين انتهت وزارة العدل إلى تحديدها، ووضعت اللجنة القواعد اللازمة لتنفيذ التعويضات.
وقد تنوعت أشكال التعويضات المطروحة بحيث يكون تعويض المتضررين من بناء وتعلية خزان أسوان تعويضات عينية، من خلال تمليكهم الأراضي التي سبق وبنوا عليها، أو منحهم حق الانتفاع بها، أما المتضررون من بناء السد العالي، فيتم تعويض أصحاب الأراضي القابلة للزراعة، بأرض أخرى إما في منطقة خور قندي بمساحة 6000 فدان، أو منطقة وادي الأمل بمساحة 1200 فدان، أما المستحقون للمساكن فيكون تعويض مالك المسكن الواحد بمسكن آخر داخل أو خارج محافظة أسوان ضمن عدد من الوحدات السكنية المتاحة في بعض المحافظات، وللمستحق طلب الحصول على تعويض نقدي بدلا من المسكن أو الأرض الزراعية، ويكون التعويض النقدي عن المسكن بمبلغ 225ألف جنيه، و25 ألف جنيه عن الفدان الواحد.
ورغم كل هذه القرارات الصادرة عن الدولة، وإن بدت محاولة لحل مشكلة أهالي النوبة فهي في حقيقتها التفاف على حق العودة وإعادة التوطين والتنمية، إذ أن توزيع النوبيين على مناطق جغرافية متفرقة ب٦ محافظات مختلفة، يفاقم آثار التهجير من تفكك اجتماعي للنوبيين، ويساهم في اندثار الهوية والثقافة واللغة النوبية.
وتستمر معاناة النوبيين وسط الاجراءات القمعية التي تعم مصر حاليا، فلا يكاد يُسمع صوت لهم بعد مداهمة النادي النوبي بالقاهرة أكثر من مرة وحملات الاعتقال التي لا تتوقف بحقهم.