كيف صاغ مفدي زكريا التاريخ شعرا وحكمة؟ وكيف نبني المستقبل في ضوء التاريخ؟
عندما تواجه الأمة تهديدا لوجودها تتزايد حاجتها لأدباء وشعراء يعيدون لها الذاكرة، والفخر بتاريخها، ويكتشفون الحكمة في تجارب كفاحها، ويشحذون همم شبابها.
وفي القرنين الماضيين استخدم الاستعمار كل الوسائل ليجعل العرب ينسون لغتهم وتاريخهم، وسير قادتهم، وإنجازاتهم التاريخية لكي يخضعوا للاستعمار الثقافي.
لقد أدرك الغرب بعد دراسة الحروب الصليبية أن المسلمين يمكن أن ينتفضوا فجأة، ويتوحدوا ويحققوا الانتصارات، عندما يستعيدون ذاكرتهم، وفي ضوء تاريخهم يقومون بتحديد أهداف حياتهم، ويدركون وظيفتهم الحضارية، ويدافعون عن مبادئهم، وعن حق الإنسان في العدل والإيمان.
وفي تاريخنا الكثير من التجارب التي يمكن أن نبني المستقبل في ضوئها، ومن أهمها كفاح الجزائر الطويل ضد الاستعمار الفرنسي، وثورة التحرير التي تشكل أهم إنجازات العرب الحضارية في القرن العشرين.
لذلك تحتاج الأمة الإسلامية في هذه المرحلة من تاريخها إلى علماء يدرسون تاريخ الثورة الجزائرية بعمق من جوانب مختلفة، فهي تجربة تتميز بالثراء، ويمكن أن تساهم دراستها في إضاءة طريق المستقبل.
وأدب الثورة الجزائرية من أهم المجالات التي تحتاج إلى دراسات متعمقة ينتجها باحثون ينطلقون من الاعتزاز والفخر بتاريخ أمة قدمت للبشرية نموذجا للكفاح الوطني، والإصرار على التحرير، وتحقيق الاستقلال الشامل.
والأدب يحتاج إلى ثورة لينطلق وينتفض ويتطور ويتحرر من التبعية للغرب، ويعبر عن مشاعر الذين يعيشون لتحقيق أهداف عظيمة مثل تحرير بلادهم من الاحتلال، وتحرير شعوبهم من الاستعمار الثقافي والتبعية والاستبداد، كما يحتاج العرب إلى أدباء وشعراء يتميزون بالقدرة على قراءة التجربة التاريخية بعمق.
والثورات تحتاج إلى أدباء يكتشفون جمالها وبهاءها وتميزها، ويصفون للبشرية مشاعر الثوار، وأحلام الشعوب وكفاح الأحرار مثل مفدي زكريا الذي يعد نموذجا مهما لشاعر يحلم مع شعبه بالحرية، فيتوحد مع هذا الشعب قي كفاحه، ويفخر بإنجازاته الحضارية.
كنت أتمنى لو اختار لها عنوانا آخر يشتقه من تاريخ الأمة، فهي ليست "إلياذة" ولكنها قصة كفاح شعب، وتصوير شعري لأعظم ثورة في التاريخ
تجربة إنسانية شخصية
عندما التحقت بكلية الإعلام -جامعة القاهرة عام 1977 علمت بوفاة شاعر الجزائر مفدي زكريا، وعشت تجربة الحزن عليه، رغم إدراكي أنه تمكن خلال حياته من تقديم عمل عظيم، وأنه سيعيش في قلوب كل الأحرار الذي جعلهم يعشقون الجزائر بتلك الصورة الجميلة التي رسمها لها في خيالهم.
أتذكر أنني حصلت على قصيدته الطويلة "إلياذة الجزائر"، وأنا في المرحلة الثانوية، وحفظت الكثير من أبياتها، وكنت أبتعد في الصحراء، وأقوم بإلقاء القصيدة، وأقلد مفدي زكريا.
لكن مع حبي للشاعر وقصيدته، فإنني كنت أعترض على تسميتها ب "الإلياذة"، فهوميروس كان يروي الأساطير والخرافات، أما مفدي زكريا فيروي الحقائق عن تاريخ شعب عظيم، ويقدم قصة كفاحه شعرا للبشرية لتتعلم فن الكفاح والمقاومة والصمود وفرض الإرادة.
كنت أتمنى لو اختار لها عنوانا آخر يشتقه من تاريخ الأمة، فهي ليست "إلياذة" ولكنها قصة كفاح شعب، وتصوير شعري لأعظم ثورة في التاريخ.
مفدي زكريا شاعر يجيد اللغة العربية الفصحى، ويستطيع أن يغرف من بحرها دررا يصور بها معاني تخرج من قلب يحب الجزائر مكانا وزمانا، جغرافيا وتاريخا وأبطالا وحضارة، وأنا شاركت مفدي في حب الجزائر، وتمنيت أن أزورها وأعيش فيها، لكنني لم أستطع إلى ذلك سبيلا.
لكن مفدي شاعر ثورة عاش أحداثها، وعاني الكثير من الآلام والأحزان في سجون المحتل الغاصب، وصاحب شهداءها وأبطالها، فكان من الطبيعي أن يستخدم موهبته الشعرية في التعبير عنها، وهو مثقف ينتمي لأمته، ويعتز بالانتماء لتاريخها وثقافتها وحضارتها
وفي المشيب أيضا.. لماذا؟
إن كنت قد عشت في شبابي مع مفدي زكريا أنشد أشعاره، وأغني معه للجزائر الجميلة، ولثورتها وشهدائها، فأنا الآن في مرحلة المشيب أعود لأقرأ شعره برؤية جديدة وأنا بعيد عن وطني، وأكابد الأشواق للأهل والرفاق ولطلابي في الجامعة، أتذكر حياة مفدي زكريا، وأنشد معه:
وقالوا هجرت ربوع البلاد .. وهمت مع الشعر في كل وادي
أجل قد بعدت لأزداد قربا .. ويلهب حب بلادي فؤادي
أري في كيان الجزائر ذاتي .. بكل اعتزاز وكل اعتداد
وإني بتخليد مجد بلادي .. مقيم على العهد رغم البعاد
هل هناك شاعر عبر عن تلك المعاني الجميلة قبل مفدي؟ وهل كان يجب أن أبتعد عن الوطن لكي أفهم المعنى الذي عبر عنه شاعر يعشق وطنه، لكنه محروم من رؤيته، ويعمل لتخليد مجده، والدفاع عن شعبه في الحرية والحياة.
في كثير من الأحيان نحتاج إلى أن نعيش التجربة، ليشرق جمال المعنى في نفوسنا، لذلك أري أن شعر مفدي زكريا يحتاج إلى باحثين يقومون بدراسته، ولكن بعد أن يعيشوا تجربة تاريخية وإنسانية تشبه تجربة مفدي.
لكن مفدي شاعر ثورة عاش أحداثها، وعاني الكثير من الآلام والأحزان في سجون المحتل الغاصب، وصاحب شهداءها وأبطالها، فكان من الطبيعي أن يستخدم موهبته الشعرية في التعبير عنها، وهو مثقف ينتمي لأمته، ويعتز بالانتماء لتاريخها وثقافتها وحضارتها.
لذلك تذكرت مفدي زكريا وأنا أطور نظرية القيادة القائمة على المعرفة، فهو يشكل نموذجا مهما لقائد استخدم موهبته الشعرية في إنتاج معرفة متميزة تقوم على تصوير تاريخ الجزائر وكفاحها بالشعر، ويشكل ذلك جانبا مهما في تطوير علم القيادة يوضح الدور الذي يمكن أن يقوم به الشعراء والأدباء والمثقفون والإعلاميون في قيادة كفاح شعوبهم بالمعرفة.
من أجل مفدي أحببت الفنان فوزي
كتب مفدي زكريا نشيد الجزائر الذي يعبر فيه عن قوة الثورة وإصرار الثوار على تحرير الجزائر، وبعد محاولات لتلحين النشيد، لم يجد ثوار الجزائر من يعبر باللحن عن المعاني، حتى جاء دور الفنان المصري محمد فوزي ليبدع في تلحين هذا النشيد.
وعندما أراد ثوار الجزائر أن يقدموا له أجره، ظهر موقفه الذي يوضح كيف أبدع في التلحين فقال: إن أجري هو مهر انتسابي لهذه الثورة العظيمة، فهو هدية لثوار الجزائر.
هذا يوضح أن الفن الحقيقي موقف، وأن الفنان الصادق هو الذي يعبر عن بطولة شعبه، لذلك جاء اللحن قويا يوظف الموسيقي لخدمة الكلمات والمعاني.
هذه الكلمات كانت تحتاج إلى فنان صاحب موقف ليشعر بها قبل أن يلحنها، لذلك كان نصيب محمد فوزي أن ينال مجد تلحين هذه الكلمات
لذلك كنت أغني في شبابي:
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب .. فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب .. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
صرخة الأوطان من ساح الفدا .. اسمعوها واستجيبوا للندا
واكتبوها بدماء الشهداء .. واقرؤوها لبني الجيل غدا
قد مددنا لك يا مجد يدا .. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
هذه الكلمات كانت تحتاج إلى فنان صاحب موقف ليشعر بها قبل أن يلحنها، لذلك كان نصيب محمد فوزي أن ينال مجد تلحين هذه الكلمات، فتظهر في اللحن معاني قوة الثوار وإصرارهم.
من أجل فلسطين
إننا يجب أن ندرس ثورة الجزائر بعمق، ونفهم المعاني التي أبدعها أدباء الثورة لنوظفها لتحرير فلسطين، وكان ذلك يشكل لي هدفا منذ شبابي، وكنت أدرك أن ثورة الجزائر تلهم الشعوب في كفاحها، وأن النموذج الذي قدمه شعب الجزائر يشكل مصدر قوة للأمة.
وأنا أدرس تاريخ الثورة الجزائرية وأدبها اكتشفت أن ذلك المعنى كان حاضرا في وجدان مفدي زكريا، فعبر عنه بقوله:
فليت فلسطين تقفو خطانا .. وتطوي كما قد طوينا السنينا
وبالقدس تهتم لا بالكراسي .. تميل يسارا بها ويمينا
إن السير على خطى ثوار الجزائر سيكون نتيجته تحرير القدس، والاحتلال الإسرائيلي لا يقل ظلما وبشاعة وقسوة ودهاء عن الاحتلال الفرنسي، لكن الأمة يجب أن تتذكر دائما أن شعب الجزائر انتصر على فرنسا عندما أضاءت دماء الشهداء له الطريق.
عز العروبة في حمى استقلالنا .. أيطير مقصوص الجناح حمام
والأمة الإسلامية تتفاعل بحب وقوة وإصرار مع شعب فلسطين كما تفاعلت مع ثوار الجزائر، فالأمة يمكن أن تتوحد من أجل فلسطين، كما توحدت من أجل الجزائر، وفي ذلك يقول مفدي زكريا:
يا أمة العرب الكرام كرامة .. لك في الجزائر حرمة وزمام
في كل أرض للعروبة عندنا .. رحم تشابك عندها الأرحام
إن صاح في أرض الجزائر صائح .. لبته مصر، وأدركته الشام
عز العروبة في حمى استقلالنا .. أيطير مقصوص الجناح حمام
تصوير التاريخ بالشعر
من أهم جوانب الإبداع في شعر مفدي زكريا أنه كتب تاريخ الجزائر شعرا، وقدم تفسيرا لاحتلال فرنسا للجزائر، فقال:
وجاعت فرنسا فكنا كراما .. وكنا الألى يطعمون الطعاما
فأبطرهم قمحنا الذهبي .. وكم تبطر الصدقات اللئاما
ويوضح مفدي حقيقة مهمة هي أن شعب الجزائر رغم القوة الغاشمة التي استخدمتها فرنسا لم يخضع، فاستمر في جهاده طوال 130 عاما:
مضت مائة وثلاثون عاما .. نذود ونأنف أن نهزما
وخلال تلك الفترة الطويلة يقدم لنا مفدي سيرة أبطال الجزائر، ومنهم الأمير عبد القادر وبو زيان وعبد الحميد بن باديس وجمعية نهضة العلماء.
وبعد استعراض التاريخ يصل مفدي زكريا إلى الحكمة التي تضيء الطريق إلى المستقبل، فيقول:
هو الدين يغمر أرواحنا .. بنور اليقين ويرسي عداله
إذا الشعب خالف عهد الإله .. وخان العقيدة فارقب زواله
إذا ما انتصرنا بحرب الخلاص .. فثورتنا اليوم حرب أصاله
لذلك يجب أن نتمسك بأصالتنا لنقدم إنجازا حضاريا جديدا، ونموذجا للكفاح من أجل الحرية والتحرير، وفي كفاحنا يمكن أن نغني شعر مفدي زكريا، لنتعلم منه معاني جديدة.
………….
نقلا عن "الجزيرة نت"