كفاك هروبا إلى ذكرياتك والتمسي الواقع بإيمان الصحابيات.. البلاء يقوينا ولا يهزمنا، ألسنا في أرض الرباط وبعض التضحيات تحتاجها هذه المكانة؟!
كان أبي حين يعود من عمله يمسك بأناملي ويشد عليها ويقول:
“شدّي حيلك .. بنات غزة قساميات.. بقلبك الأقصى وبروحك الشهادة”.
يخاطبني بابنة قلبه حين أجالسه وأحادثه، وحين أنام يمسك بكفي ويقرأ المعوذات بهدوء أحسده عليه وكأن الآيات تبعث في قلبه السكينة فلا يأبه لصوت القصف.. أمسك بكفه ولا أفلته، كطفل يبحث عن الأمان في متاهة هذا الواقع الذي نعيشه.. يمنحني حنانا مضاعفا وكأنه يجهزني لهذه اللحظات فيعوضني عما سأفقده لسنوات عمري القادمة.
لطالما شكوت قلة ملابسي فيبتسم برقة ويقول: “أود شراء ثياب الدنيا لك كما تحبين وترغبين، التزمي التفكير بما عند الله.. في الجنة ما لا عين رأت ولا خطر على قلبك الصغير”.
يخبرني بهذا ويسارع لشراء ما أريده ما إن يتوفر له المال، يشتري دون أن يطلب مني مقاسي، وكأنه حفظ مقاس كل منا، تصور كل الأثواب تكون مناسبة لي ولإخوتي وكأننا معه رغم اختلاف أعمارنا! حينها أدركت أنه يحفظ كل تفاصيلنا حتى أحاديثنا التافهة يسجلها في ذاكرته.. الأب حياة والأم الأمل.. لذا أخاف الفقد..
وفهِمَتْ من لغة عينيه أنه يخاف عليها أيضا، فمن منا لا يخاف فنحن بشر في النهاية.. أم أن صفة الخوف والدموع خرجت من قواميسنا!
حمل شيفرته بعد اتصال سريع ونظر إليها كأنه يأسف لانقطاع الحديث بينهما: “سنتحدث وتخبريني بكل ما يجول في فؤادك المتعب وعن كل ما مرّ فيما مضى.
لقد رحلوا عنا وأخذوا كل ما هو جميل معهم، ولكنهم عند رب رحيم.. لم يبق لك سوى ذكريات تجعلك تشتاقين لرؤيتهم كل يوم أكثر لكنها الحياة جُعلت للمؤمن دار امتحان ليصبر ويثبت.. أنت تنتظرين لكن الوطن لا ينتظر أبدا”.
حمّلَتْه أمنيات العودة.. عودته إليها.. عودتهما لربوع حيفا، لم تكن تحتاج إلا ترسيخ هذه الصورة في ذاكرتها لتضاف لألبوم صور يحفظها العقل ويكررها..
تجدد القصف أثقل على قلبها ودفعها للوضوء والتجهز لصلاة الحاجة، لم تحتج يوما إلى سجادة الصلاة بل كانت تلامس بجبهتها الأرض علّها تلتمس منها الثبات فأرض غزة مجبولة على العزة والكرامة، أرضها هدية الأحرار فكيف لا تغدق عليها بعضا من الثبات..
آخر ما سمعته صرخات جيرانها، نفس الصرخات! أم نفس المشهد وكأس الشاي الذي لم تشربه أبدا وركام ودمار، كان يكفيها من هذه الحياة أن تصرخ لكن حنجرتها أبت حتى التعبير..
أهداها الزمن لحظات عاشتها مع زوج صالح.. لم تكن بحاجة لاستعراض الثياب الفاخرة وصيحات الأزياء، فقد ألبسها ثوب القناعة وعطر كلماته الساحرة تغْنيها عن عطور الدنيا، ابتسمت لغبار ملأ المكان ورفعت سبابتها لتكمل آخر عبارة ينطقها شهداء غزة وأطفالها عند لحظة الرحيل والوداع لا بل لحظة اللقاء والجزاء.