دشن السيسي ولايته الجديدة غير الدستورية، والتي جاءت بالتلاعب التشريعات والدستور المصري أو بالتصويت الإجباري والقسري من الموظفين ومستحقي معاش تكافل وكرامة وأصحاب الأمراض ومتلقي الخدمات الحكومية والمعوزين الباحثين عن كيس أرز أو سكر، في ظل فقر مدقع أوصل الشعب لحد القتل والانتحار والسرقة بالإكراه من أجل لقمة خبز.
بدأ السيسي حكمه القسري لمصر بالبندقية، منذ الانقلاب العسكري على الرئيس مححمد مرسي، ليذيق المصريين الويلات الاقتصادية والسياسية والقمع اللا معقول، لقهر إرادتهم وإجبارهم على قبول الواقع بمرارته، دون أن يجرؤ أحد على مجرد التعبير عن رأيه.
نظريا تولى السيسي الحكم حتى الآن لمدة عشر سنوات (2014 ـ 2024) وعمليا هو يحكم منذ 3 يوليو 2013، والجميع مدرك أن المستشار عدلي منصور الذي تولى الفترة الانتقالية كان مجرد غطاء شكلي، بل إنه هو نفسه كان يدرك ذلك وعمل بمقتضاه حتى رحيله.
ومنذ ديسمبر الماضي، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات فوز السيسي ب 89,6%، في تمثيلية سمجة، تمت هندستها باروقة المخابرات، ليحرم فيها المرشحين الجادين من منافسة الفرعون، وإخراج ثلة أراجوزات يمثلون دور المنافق للسيسي، ومعها باتت الانتخابات الرئاسية أقرب إلى الاستفتاء مثلما حدث في النسختين السابقتين من الانتخابات، وكما كان يحصل خلال عقود حكم الرئيس الراحل حسني مبارك الذي أسقطته ثورة يناير في 2011.
وبرغم كل العوار الدستوري والإجراءات الأمنية التعسفية ضد المنافسين في كل الجولات الانتخابية السابقة فإننا أمام حكم الأمر الواقع الذي فرض نفسه على الجميع، واستعاد مسار الحكم العسكري لمصر الذي لم ينقطع سوى مدة عام واحد حكم الدكتور محمد مرسي رحمه الله، بل إن الحكم الحالي هو النسخة الأردأ في سلسلة الحكم العسكري الممتد منذ العام 1952.
حفل عاصمته الجديدة
حفل إسطوري من أموال المصريين، يقيمه السيسي غدا بالعاصمة الإدارية، لإعلان ولايته الثالثة، والتي لن تتزحح عما هو قائم ، بل ستجر البلاد لمزيد من التراجع والتخلف والانهيار، الذي يدفع ثمنه المصريون من دمائهم وأموالم ومستقبلهم، وسط حكم عصابة من العسكر، الذين لا يهتمون سوى بتحصيل الثروات وتحصين أنفسهم وقهر الشعب المصري.
الحصاد المر
وطوال 11 عاما، لم يشهد المصريون يوما مريحا في حياتهم، على كافة الأصعدة.
فعلى المستوى السياسي، تم خلال تلك السنوات إغلاق الحياة السياسية وعسكرتها تماما بزعم تعرض الدولة لأخطار، وما تبع ذلك من عمليات قتل واعتقال، وتشريد وتقسيم للشعب، ومنعه من حق التعبير والتظاهر، وحرمانه من الانتخابات الحرة في كل المستويات، وحل أو تجميد أو محاصرة الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت داعمة لنظام 3 يوليو في البداية، واعتقال بعض قادتها وأعضائها، وحتى حين دعاها لحوار وطني فقد تعامل معها كديكور فقط، ولم يستجب لما قدمته من توصيات.
وعلى الصعيد الاقتصادي استلم السيسي الحكم، بينما كانت ديون مصر الخارجية 43 مليار دولار فصعد بها إلى 165 مليار قبل أن يضيف إليها مؤخرا ديونا جديدة من صندوق النقد (8 مليار دولار) والبنك الدولي (6 مليار دولار على 3 سنوات) والاتحاد الأوربي (7,4 مليار يورو)، بخلاف قروض اصغر من عدة دول وجهات أخرى، كما استلم السيسي السلطة بينما كان الدولار يساوي 6 جنيهات ليقفز به إلى خمسين جنيها ( بل وصل إلى 70 جنيها لبعض الوقت).
وحلت مصر في ذيل تراتيب مؤشرات جودة الحياة، وباتت مرتعا للجريمة والأزمات النفسية والأمراض النفسية والانتحار، وزادت أعداد الفقراء وتلاشت فرص العمل والإنتاج وأغلقت أكثر من 50 ألف مصنع وشركة، وتعطلت مناحي الإنتاج وبات التصدير بلا أي تطور وتراجعت تحويلات المصريين بنسب تجاوزت الثلث بسبب السياسات المالية الفاشلة.
كما قفزت أرقام التضخم عند 40% ، وزادت أسعار كل السلع والخدمات، بلا توقف ما ألهب ظهور المصريين، وجعل أكثر من 60% منهم من الفقراء أكثرهم يعانون الفقر المدقع.
كما باع السيسي أصول مصر الاقتصادية، التي تمثل رافعة للاقتصاد القومي، فاغلق شركات الحديد والصلب والأسمدة والفحم والكوك ومصانع الألومنيوم، وباع شركات الطيران والموانئ والمطارات بالطريق، كما تقزمت مساحة مصر، وتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وتنازل عن ما يقرب من مساحة دلتا مصر لليونان ومثلها لقبرص في مياه البحر المتوسط، وباع أراضي رأس الحكمة التي تقدر بنحو مساحة الإمارات، لعيال زايد، وغيرها الكثير الذي يجري عرضه للبيع لمن يدفع.
بل باتت مصر أكثر اعتمادا على الخارج في توفير غذائها ودوائها، وأضحت أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان تعاني أزمات مياه وعطش وجوع وتقص في الحصص المائية ، بعدما ساهم السيسي وبعض شركاته في بناء سد النهضة ، ليحرم مصر لأول مرة في التاريخ من حقوقها التاريخية بمياه النيل.
صحيح أن السيسي أنجز مجموعة من المشروعات الكبرى اعتبرها واجهة جمهوريته الجديدة، مثل تفريعة قناة السويس، والعاصمة الإدارية، والعلمين، وبناء آلاف الشقق السكنية الجديدة، واستصلاح مساحات جديدة من الأراضي، وبناء عدة طرق سريعة، وتطوير للسكك الحديدية والمترو، لكن غالبية هذه المشروعات لم تكن ذات جدوى اقتصادية مثل تفريعة قناة السويس التي اعترف السيسي نفسه أنها كانت لرفع الروح المعنوية للشعب، أو لم تكن ذات أولوية ضمن سلم أولويات الشعب أو الوطن، مثل العاصمة الإدارية أو العلمين أو مشروع المونوريل، الخ، وصحيح أن مصر ليست الوحيدة التي تقترض من المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد لكنها جاءت في الترتيب الأول عربيا والثاني عالميا في هذا الاقتراض، الذي لم يكن لضرورة تنموية.
وبالحديث عن المؤشرات التنموية والاجتماعية الأخرى وعلى عكس تصدرها مؤشر القروض فإن مصر تزيلت المؤشرات الأخرى وأحدثها مؤشر القضاء، حيث حلت في المرتبة 110 من مجموع 113 دولة من حيث نزاهة القضاء وسيادة القانون، وحققت مصر 18% في مؤشر الحرية العالمي، وجاءت في المرتبة 121 من 137 في مؤشر السعادة العالمي، تسبقها موريتانيا والعراق وفلسطين (قبل طوفان الأقصى)، وفي مؤشر الفساد 108 عالميا، وفي مؤشر حرية الصحافة 166، وفي مؤشر جودة التعليم في المركز 90 عالميا، وتوسطت قائمة أسوأ عشرين دولة في احترام حقوق العمال (وفقا لتقرير الاتحاد الدولي لنقابات العمال)، ولا ننسى معركة خط الفقر التي صاحبت تقريرا للبنك الدولي، أثبت فيها أن ثلثي المصريين تحت خط الفقر أو يقتربون منه.
وقد اعتمد السيسي لسنوات طويلة على التمويل الممنوح من صندوق النقد الدولي عبر القروض أو عبر ودائع الحلفاء الخليجيين، وهو ما يصفه الباحث في المعهد الإيطالي للشؤون الدولية روبرت سبرنغبورغ بأنه نموذج اقتصادي فقدت معظم البلدان في العالم ثقتهم فيه.
ويوضح سبرنغبورغ أن هذا النموذج يتبنى سياسة “العسكرة” و”الإسراف في الاقتراض من أجل مشاريع مرموقة ذات فوائد اقتصادية محدودة”.
وهكذا تضيع مصر كل يوم مع السيسي، حتى وإن سلط إعلامه الأضواء على بعض فناكيشه كدلالة على التقدم، يبقى المواطن هو الأساس، وهو مصدر الحكم وصاحب السيادة، وبدون سعادة المواطن ورفاهيته، فإن كل ما يقال مجرد أوهام يسوقها النظام ليستر عوراتته، بعدما أكل الشعب المصري أرجل الفراخ، وبحث عن الفاكهة المعطوبة في الأسواق ليأكل منها.