العمالة الماهرة تغادر مصر... والجيش يحتكر الاقتصاد بالـ"سخرة" بينما يشكو أرباب الصناعات في مصر من أزمة ندرة العمالة الفنية المُدرّبة، تُظهر الوقائع أن الظاهرة تتجاوز حدود الهجرة الاقتصادية أو ضعف الحوافز، لتكشف عن عمق اختلالات بِنْيَويّة يفرضها النظام الاقتصادي المُسيطَر عليه من قِبل المؤسسة العسكرية، حيث باتت السوق مفتوحة أمام استغلال المهنيين بنظام أقربَ إلى "السُّخرة"، في مشروعات لا توفر الأمان الوظيفي أو بيئة عمل عادلة. فعلى مدار سنوات، تسرّبت أعداد كبيرة من الحِرفيين والمهنيين من السوق المحلي، إمّا إلى دول الخليج بحثًا عن ظروف عمل أفضل، أو إلى مهن عشوائية وسريعة الربح مثل قيادة "التوك توك"، وفي الوقت ذاته، استحوذت جهات سيادية على قطاعات واسعة من الاقتصاد، وخاصة قطاع الإنشاءات والمرافق، مُعتمدِة في كثير من الأحيان على مهندسين وفنيين يعملون تحت أوامرَ مباشرةٍ ودون حقوق مهنية واضحة، ما عزز الشعور بعدم جدوى البقاء في السوق النظامية. السُّخرة.. الوجه الآخر لتآكل سوق العمل يقول محمد فوزي، مدير مصنع للمنتجات البلاستيكية في مدينة برج العرب: إن "مصنعه يُخسّر فرص تصدير منتظمة لعجزه عن إيجاد فنيين مَهَرَةٍ، ويضيف، نعلن عن وظائفَ منذ شهور ولا أحد يتقدم، ومن يأتي لا يملك الكفاءة، الحِرفي الجيّد إمّا سافر أو تم استيعابه في مشروعات كبرى تُدار من مؤسسات سيادية بلا تعاقد واضح أو مستقبل مضمون". ورغم الحديث الرسمي المتكرر عن دعم القطاع الخاص، فإن معظم المشاريع الكبرى تُمنح لشركات تابعة للجيش أو تديرها جهات أمنية، ويتم فيها الاستعانة بعمال وفنيين دون أجر عادل أو مزايا تأمينية، ما يسحب الفئات المُدرّبة من السوق المفتوحة ويعزز مناخًا طاردًا للاستثمار الحقيقي، بحسب شهادات صناعيين تحدثوا لـ"العربي الجديد". هيمنة اقتصادية تُقصي الكفاءة رئيس الغرفة التجارية في القليوبية، محمد عطية الفيومي، يُحذر من أن نقص العمالة الماهرة "أحد أخطر مُعوقات الاستثمار"، ويرى أن "فقدان السوق لجزء كبير من الكوادر الفنية جاء نتيجة غياب الحوافز وضعف التنظيم، لكنه أيضًا انعكاس لبيئة اقتصادية مغلقة تُفضّل التوسّع في مشروعات تُدار من مؤسسات فوق رقابة السوق، تُقصِي الكفاءة وتُعيد فرض أشكال من العمل الإجباري". ووفق تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، يعمل فقط نحو مليوني شخص في قطاع الحرف اليدوية، من أصل قوة عمل إجمالية تتجاوز 32 مليونًا، في مشهد يُظهر الانصراف الواسع عن العمل الإنتاجي. تدهور التعليم الفني.. والمستقبل خارج الحدود في المقابل، تُشير الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم إلى أن مؤسسات الدولة التعليمية لا تقدم الحد الأدنى من التأهيل الفني، فيما يزداد عزوف الأسر المصرية عن التوجيه نحو التعليم الحِرفي لصالح الكليات النظرية، رغم تفاقم البطالة بها. وتضيف: "هناك خلل ثقافي، لكنه أيضًا سياسي، لأن الدولة لا تقدّم نموذجًا ناجحًا للعامل أو الفني الذي يتمتع بالحماية والتقدير، بالعكس، يتم الزج بالمهن الفنية في منظومات عمل غير رسمية، أو في مشروعات سيادية دون غطاء نقابي، وهو ما يدفع الشباب للهرب". القطاع غير الرسمي ملاذٌ أخيرٌ يوسف الجعراني، عضو الغرفة التجارية بالإسكندرية، يؤكد أن سوق العمل يُفرغ تدريجيًا من المهارات، بفعل "الاستقطاب القسري" نحو القطاع غير الرسمي، أو مشروعات لا تملك قواعد توظيف شفافة، مشددًا على أن "أي مشروع تنموي لن ينجح إذا لم يُعالج أولًا اختطاف الكفاءات من قبل اقتصاد مغلق، يُدار بمعايير غير تنافسية". ويضيف: "ما لم تُطلق الحكومة مشروعًا وطنيًا حقيقيًا لتدريب مليون فني خلال خمس سنوات، وإعادة الاعتبار لحقوق العمالة النظامية، فإن الصناعة في مصر ستظل تدور في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ".