قالت ورقة بحثية بعنوان (نحو تنظيم استراتيجي موحَّد للحركات الإسلامية: من التعدد إلى التكامل في ظل صعود القضية الفلسطينية كرافعة حضارية) نشرها “حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية” ضمن التأصيل الاستراتيجي الدعوي إن ملحمة “طوفان الأقصى” وما تلاها أثبتت أن الاحتلال الصهيوني ليس مجرد قضية سياسية محلية، بل هو قلب الصراع بين قوى الظلم والتحرر في العالم، وأن الأمة رغم شتاتها الرسمي، لا تزال قادرة على النهوض حين تُخاطَب بفطرتها الدينية والحضارية.
واستعرضت ما يمكن أن يقدمه طوفان الأقصى على المستوى الحضاري الإسلامي و”تحوّل هذا الصعود الشعبي لفلسطين إلى نقطة ارتكاز لمشروع حضاري إسلامي جامع” إضافة “لبناء كيان استراتيجي موحَّد للحركات الإسلامية يتجاوز التشرذم، ويستثمر قرنًا كاملًا من التجربة الإسلامية، ويعيد تعريف وظيفة التنظيم والخلافة والتمكين في عالم ما بعد الدولة الوطنية؟”.
جذور مشروع
وقالت الورقة إن “الجذور التاريخية للمشروع الإسلامي المعاصر” تتضح خلال قرن كامل من العمل الإسلامي، تشكّلت الملامح الكبرى لما يمكن أن يُسمّى بـ”المشروع الإسلامي المعاصر”، وهو مشروع غير مكتمل، تعددت تجاربه واختلفت سياقاته، لكنه حافظ على معالم جوهرية:
1. من الوعظ إلى السياسة، ومن المحلية إلى العالمية
ورأت أنه بدأت الحركات الإسلامية بحركات إصلاح ديني وتعليمي، ثم تحوّلت إلى مشاريع سياسية تسعى لإصلاح أنظمة الحكم، أو الوصول إليها، ثم تطورت تدريجيًا لتكتسب بعدًا عالميًا عبر الشتات والمجتمعات المهاجرة.
2. تأسيس قواعد مجتمعية واسعة
واستعرضت كيف نجحت معظم الحركات الإسلامية في بناء قواعد شعبية قوية عبر مؤسسات تعليمية، وخيرية، ودعوية، ومجتمعية، مما منحها حضورًا جماهيريًا كبيرًا، وإن بقي هذا الحضور محكومًا بحدود الدولة أو الإطار التنظيمي.
3. تنوع مجالات الفعل: من المقاومة إلى التعليم
وأشارت إلى مراوحة التجارب الإسلامية بين الكفاح المسلح (فلسطين، أفغانستان)، والعمل السياسي (مصر، تركيا، تونس، المغرب)، والعمل المجتمعي (شرق آسيا وأوروبا)، والفكر والتنظير الحضاري (إيران، باكستان، الهند، ومراكز المهجر).
4. تراكم معرفي واسع
وخلصت إلى أن للحركة الإسلامية كمًا هائلًا من الدراسات حول مفاهيم الدولة، والحكم، والشريعة، والنظام العالمي، والفقه الحضاري، وأحوال الأمة، وهو إرث معرفي ثمين، وإن ظلّ غير موحَّد الاتجاه، أو منضبط الرؤية.
5. العوائق البنيوية
وعن عوائق المشروع قالت إنه رغم هذا التراكم، ظلّ المشروع يعاني من:
• غياب الرؤية المشتركة.
• تعدد المرجعيات (حركية، مذهبية، قطرية).
• التنافس بين الحركات بدل التنسيق.
• هشاشة العلاقة مع المجتمعات غير المسلمة.
• ضعف القدرة على التأثير في ميزان القوى الدولي.
ثانيًا: التحديات الكبرى التي تفرض إعادة بناء المشروع الإسلامي الجامع
وقالت إنه رغم صلابة الجذور واتساع القواعد، إلا أن المشروع الإسلامي المعاصر يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة من حيث عمقها وسرعتها، ما يجعله مضطرًا إلى إعادة تعريف ذاته، وتشكيل بنيته، وتحديث أدواته، وتوسيع رؤيته لتجاوز الحالة الدفاعية إلى حالة المبادرة الحضارية. ومن أبرز هذه التحديات:
1. تغيّر طبيعة المعركة: من الصراع على السلطة إلى الصراع على الوجود
لم تعد المعركة اليوم تدور حول من يحكم، أو كيف تُدار الدولة، بل تحوّلت إلى صراع وجودي على هوية الأمة، وحقها في البقاء، وامتلاك إرادتها، وسيادتها الثقافية والفكرية:
• في فلسطين، لم يعد الاحتلال يكتفي بالسيطرة العسكرية، بل يعمل على الإبادة الشاملة والاقتلاع السكاني والتطهير العرقي.
• في العالم العربي، تتساقط الدول واحدة تلو الأخرى في هاوية التفكك أو التبعية المطلقة.
• في الوجدان العالمي، يُراد للإسلام أن يُمسخ، ويُفرغ من قيمه، أو يُقدَّم كدين متوحش ومتخلف.
وأشار الباحث إلى أن هذا التحوّل يفرض على المشروع الإسلامي أن يغيّر زاوية نظره: من مشروع حكم إلى مشروع بقاء حضاري، ومن منافسة داخل النظام إلى مقاومة لنظام الظلم العالمي.
2. تسارع مشاريع الإبادة، والتفكيك القيمي، والاختراق الاستراتيجي
ومع تسارع مشروعات الاعداء سواء في “الاحتلال الصهيوني، والإمبراطوريات الرقمية، وشبكات التمويل، ومنظومات التعليم العالمية”، كلها تعمل اليوم في انسجام مذهل لإعادة تشكيل وعي الأمة، واقتلاعها من جذورها العقدية والتاريخية:
• الإعلام يعيد برمجة العقول.
• الاقتصاد يربط المجتمعات بالمنظومات الاستعمارية.
• التعليم يُعيد تعريف المفاهيم القيمية.
• الثقافة تستهلك النموذج الغربي بلا نقد أو غربلة.
ولمواجهة هذا الخطر الشبكي المعولم، لا يمكن لحركة أو جماعة بمفردها أن تُحدث اختراقًا، بل لا بد من تنظيم إسلامي عالمي متكامل يُقاوم بمنطق الشبكات، ويتحرك بوحدة الرؤية وتنوع الأدوات.
3. ولادة أجيال جديدة خارج التنظيمات، ولكن أكثر وعيًا واستعدادًا
فمع تراجع الأداء السياسي لبعض الحركات الإسلامية، وانكشاف التنظيمات التقليدية أمام الإعلام والأنظمة، نشأ جيل جديد من الشباب المسلم:
• لا ينتمي تنظيميًا،
• لكنه أكثر انفتاحًا،
• أكثر تحررًا فكريًا،
• وأكثر إيمانًا بالقضية،
• وأكثر اتصالًا بالعالم الرقمي.
إن هؤلاء هم وقود المشروع القادم، لكنهم يفتقرون إلى القيادة الجامعة، والبوصلة المنهجية، والتأطير الحضاري. ولذلك، إن لم يُحتضنوا ضمن رؤية تكاملية مرنة، فإما أن ينكفئوا أو يتطرفوا أو يتلاعب بهم الخصوم.
4. غياب الدولة الحاضنة، وانهيار النموذج الجامع
لم تعد هناك دولة أو مؤسسة كبرى يمكن أن تحتضن المشروع الإسلامي أو تمثله دوليًا. بل معظم الدول اليوم إما:
• منخرطة في مشاريع مضادة،
• أو محكومة بأنظمة استبدادية،
• أو غارقة في الأزمات والانهيارات،
• أو مرتهنة للقوى الدولية.
ومع هذا الفراغ، لا بد أن تنشأ شبكة فوق–دولتية، مرنة، جامعة، عابرة للحدود، تُعيد بناء مركز القيادة الحضارية للأمة، عبر تنسيق الجهود من القاعدة إلى القمة.
5. تفوق خصوم الأمة في التنسيق والعمل الشبكي العالمي
بينما لا تزال الحركات الإسلامية تتنافس على المساجد والمقاعد والمواقع، ينسق خصومها:
• في الإعلام،
• والسياسة،
• والتمويل،
• والدبلوماسية،
• والمؤسسات الحقوقية،
• وحتى في اختراق الحركات نفسها.
لقد صار العدو أكثر فهمًا للبيئة الإسلامية من بعض أبنائها، وأكثر قدرة على توظيف الدين ضد أهله، أو احتواء الصحوة الإسلامية ضمن أنظمة غير أخلاقية.
وهذا ما يفرض وعيًا استراتيجيًا جديدًا لدى الإسلاميين، يُدرك أن المعركة لا تُدار فقط في المساجد، بل في الجامعات، وشبكات التمويل، ومجالس حقوق الإنسان، وفضاءات الإعلام، ومخازن الأفكار، وأروقة القرار الدولي.
وخلصت الورقة حتى هذا الجزء إلى أنه لا يمكن مواجهة هذه التحديات بأدوات الأمس. بل نحن أمام لحظة مفصلية تتطلب:
• كيانًا جامعًا يتجاوز ضيق التنظيمات.
• مشروعًا حضاريًا يتجاوز الصراع السياسي.
• خطابًا عالميًا يتجاوز الانغلاق الأيديولوجي.
• تنسيقًا شبكيًا يتجاوز المركزية الحركية.
• تحركًا جماهيريًا يستثمر صعود فلسطين، ويحوله إلى بوابة النهضة.
عناصر إضافية
ثالثًا: القضية الفلسطينية كرافعة حضارية في مشروع التكامل الإسلامي
وعلقت على ملحمة “طوفان الأقصى” وما مثلته من نقلة نوعية في الصراع مع الاحتلال، والأهم كان في إعادة توجيه وجدان الأمة، وتوحيد بوصلتها، وكشف تهافت الخطاب الغربي المزدوج، وتفجير طاقات الشعوب من جديد.
ورصدت في إطار ذلك التعبئة الحضارية من مظاهرات وانتفاضات طلابية وتحدي النخب الفكرية والمجتمعية في الغرب للسردية الصهيونية وتشكّل جبهة واسعة من المؤمنين بالعدالة، من المسلمين وغير المسلمين.
وكيف صارت فلسطين أداة وحدة بين الشعوب والحركات رغم الخلافات الفقهية والمذهبية والسياسية بين الحركات الإسلامية حيث:
• توحيد الرواية والرسالة حولها.
• ربط المؤسسات العاملة من أجلها ضمن شبكة واحدة.
• جعلها قضية الحشد الأولى في العالم الإسلامي والمهجر.
4. تعبئة الطاقات الجديدة حول فلسطين
رابعا: نحو كيان استراتيجي موحّد: البناء الفكري والمؤسسي للمشروع الإسلامي الجامع
وقالت “إن اللحظة التاريخية الراهنة تتطلب تحولًا نوعيًا من منطق الحركة إلى منطق الأمة، ومن الولاء للتنظيم إلى الولاء للمشروع، ومن الصراع الداخلي إلى التنافس الحضاري مع أعداء الإنسانية”.
ورأت أن المطلوب ليس “تنظيمًا واحدًا” بل مشروع جامع يُنظم الجهود لا ليهيمن، بل ليُنسق، ويؤطر لا ليقيد، ويجمع لا ليبتلع.
وخلصت في هذه النقطة إلى أن إنشاء كيان استراتيجي موحَّد لا يعني إقامة تنظيم جديد، بل تدشين مرحلة جديدة في العقل الإسلامي الجماعي، يكون فيها:
• الإسلاميون أكثر وعيًا بالمرحلة،
• وأكثر إدراكًا لأهمية التشارك لا التمركز،
• وأكثر جرأة في نقد الذات،
• وأكثر إبداعًا في أدوات التأثير.
خامسًا: الشروط الأخلاقية والسياسية لنجاح المشروع الإسلامي الجامع
واستعرضت الورقة “الطموح نحو تأسيس مشروع حضاري إسلامي جامع، يتجاوز السياقات القُطرية والانغلاق التنظيمي، لا يكفي فيه توفر الأفكار أو الهياكل، بل يتطلب شروطًا أخلاقية وفكرية وسلوكية تتجدد بها الروح، وتنضبط بها الممارسة، ويُبنى بها الثقة بين المكونات الإسلامية، ويُكتسب بها الاحترام في أعين الأمة والعالم”.
ورأت أن هذا يقتضي:
• الترفع عن الخلافات الفقهية والتنظيمية الضيقة.
• رفض تحويل الخلافات السياسية إلى صراعات عقدية.
• بناء خطاب أخلاقي، يستوعب الأمة لا يعاديها.
سادسًا: من طوفان فلسطين إلى ميلاد المشروع الإسلامي الجامع
ورأت الورقة أن شروط انبعاث مشروع الأمة الحضاري تتمثل في:
• شعوب حية تهتف لفلسطين، وتشتبك مع جلادها بلا تنظيم ولا تمويل.
• شباب متحرر من إرث الماضي، لكنه أكثر التزامًا بالحق والعدل.
• فضاء رقمي ألغى احتكار الرواية، وفتح أفق التأثير الشعبي العالمي.
• أزمات متلاحقة للنظام العالمي تُضعف شرعيته، وتكشف عورته الأخلاقية.
وخرجت الورقة بتوصيات ختامية:
1. إطلاق حوار استراتيجي بين الحركات الإسلامية والفاعلين الجدد حول بناء الكيان الجامع.
2. اعتبار فلسطين قضية المركز في المشروع الإسلامي الحضاري الجامع.
3. إعادة هيكلة الخطاب الإسلامي ليكون شاملًا، تحرريًا، إنسانيًا، أخلاقيًا.
4. تحويل الخبرة التنظيمية إلى مشاريع أممية متعددة المجالات.
5. تدشين شبكة إعلامية – شبابية – قانونية – اقتصادية – تربوية – حقوقية، منضبطة بالقيم، ومفتوحة على العالم.
وعلق د. طارق الزمر بسياق من الورقة من انه “رغم ما حققته تلك الحركات من إنجازات في مجالات الدعوة والتربية والسياسة والمقاومة والعمل الاجتماعي، إلا أن معظمها ظل محكومًا بإكراهات التجزئة القُطرية، والتنافس التنظيمي، والنزعات الإيديولوجية، ما حال دون تحقيق مشروع جامع للأمة، أو بناء قوة إسلامية موحدة تتناسب مع التحديات والمهددات الكبرى التي تواجه الأمة في العقود الأخيرة.”.
وأشار إلى أن ملحمة “طوفان الأقصى” وما تلاها أثبتت أن الاحتلال الصهيوني ليس مجرد قضية سياسية محلية، بل هو قلب الصراع بين قوى الظلم والتحرر في العالم، وأن الأمة رغم شتاتها الرسمي، لا تزال قادرة على النهوض حين تُخاطَب بفطرتها الدينية والحضارية.
وأضاف أنه “منذ انهيار الخلافة الإسلامية مطلع القرن العشرين، وجدت الأمة نفسها في حالة من التيه السياسي والانقسام الجغرافي، والفراغ المرجعي، ما أدى إلى نشوء عشرات الحركات الإسلامية التي حاولت، كل بطريقتها، ملء هذا الفراغ التاريخي، واستعادة شيء من الفاعلية الحضارية للإسلام في حياة المسلمين”.