منذ أكثر من عقد، لم يعد ملف السجناء السياسيين في مصر شأنًا داخليًا، بل تحوّل إلى أزمة حقوقية دولية تضع النظام القضائي والأمني تحت مجهر المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة. ورغم الإعلان عن مبادرات مثل الحوار الوطني و"العفو الرئاسي"، ظلّت تلك المبادرات مجرد أدوات دعائية لا تغيّر من واقع آلاف المعتقلين، في ظل إصرار المنقلب السفاح عبد الفتاح السيسي على استهداف الأحرار والمعارضين لسلطته، بينما يظهر خضوعًا تامًا أمام القوى الإقليمية والدولية، وخاصة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ودول الخليج.
السيسي، الذي يضمن ولاء الجيش والشرطة والقضاء عبر الامتيازات المالية والسلطوية غير المسبوقة، جعل من سياسة الاعتقال والتدوير والقمع اليومي سلاحًا أساسياً لإسكات المعارضة. فيما يتم التعامل مع أصوات الحرية باعتبارها "خطرًا وجوديًا"، مقابل التغاضي عن الجرائم والانتهاكات التي تُرتكب بحقهم.
حالات فردية تكشف نمطًا ممنهجًا
إبراهيم متولي
المحامي إبراهيم متولي، مؤسس "رابطة أسر المختفين قسريًا"، اعتُقل عام 2017 أثناء سفره إلى جنيف لعرض ملف الاختفاء القسري أمام الأمم المتحدة. ثماني سنوات من الحبس الاحتياطي المتجدد في ثلاث قضايا متطابقة الاتهامات جعلت منه نموذجًا صارخًا لسياسة التدوير. معاناته مع أمراض البروستاتا وحرمانه من العلاج أو الزيارات الإنسانية تكشف انتهاكًا صارخًا للحق في الحياة والصحة المكفول بالدستور والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
حسيبة محسوب
المهندسة وسيدة الأعمال، اعتُقلت في نوفمبر 2019، واختفت قسريًا أكثر من شهرين، ثم أُدخلت قسرًا في قضايا متتالية بذات التهم: "الانضمام لجماعة محظورة" و"نشر أخبار كاذبة". قضيتها توضح الخرق الفاضح للقانون المصري ذاته الذي يحدد سقف الحبس الاحتياطي بعامين. تجاوز هذا السقف وتجاهل أوضاعها الصحية (أمراض القلب وضغط الدم والورم الرحمي) يعكس الطبيعة العقابية لملف الاحتجاز السياسي.
أنس البلتاجي
منذ اعتقاله عام 2013، أصبح مثالاً صارخًا للاحتجاز بلا نهاية. قضايا متعاقبة، تعذيب، حرمان من الزيارات، وإضراب عن الطعام واجهه النظام بالحبس الانفرادي لثلاثة أشهر، ما تسبب بتدهور خطير في صحته.
أرقام تُدين الواقع
60 ألف معتقل سياسي بحسب تقديرات حقوقية (2025).
40 ألفًا على الأقل وفق "فريدوم هاوس".
تقرير العفو الدولية 2024: الإفراج عن 934 معتقلًا سياسيًا مقابل اعتقال 1594 جديدًا، ما يعكس سياسة "الباب الدوّار".
التدوير: الآلية الأخطر التي تُعيد المحتجزين لقضايا جديدة فور انتهاء فترة الحبس، لتتحول المدة إلى عقوبة مفتوحة بلا حكم قضائي.
انتهاكات جسيمة للالتزامات الدولية
العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه مصر، يحظر الاعتقال التعسفي، ويضمن الحق في المحاكمة العادلة والحرية الشخصية.
اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تجرم الممارسات الموثقة في السجون المصرية، من التعذيب إلى الإهمال الطبي.
المراجعة الدورية الشاملة في مجلس حقوق الإنسان: مصر تُنتقد بانتظام بسبب تجاهلها التوصيات المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
ليس مجرد إخفاق إداري أو بطء قضائي
ملف السجناء السياسيين في مصر ليس مجرد إخفاق إداري أو بطء قضائي، بل سياسة ممنهجة يصر عليها النظام القائم، تُفرغ مبادرات "العفو" و"الحوار الوطني" من أي مضمون حقيقي. إنها سياسة تقوم على استرضاء الحلفاء الخارجيين، وضمان ولاء الأجهزة الأمنية والقضائية، مقابل سحق الأحرار والمعارضين داخل الزنازين.
وبينما يظل المجتمع الدولي يوجّه بيانات قلق ومذكرات إدانة، يواصل السيسي استعراض مسرحيات الإفراج المحدود، في وقت يبقى فيه عشرات الآلاف رهائن الحبس الاحتياطي، والتعذيب، والإهمال الطبي، في ما يشبه حكمًا مؤبدًا بلا محاكمة.