منذ انقلاب يوليو 2013، تحولت القاهرة والإسكندرية ومعظم المدن المصرية إلى ساحات مفتوحة لعمليات اقتلاع جماعي للأشجار، التي طالما شكّلت جزءاً من هوية البلاد العمرانية وبيئتها التاريخية.
لم تسلم حتى حديقة الحيوان بالجيزة وحديقة الأورمان، وصولاً إلى شوارع الإسكندرية العتيقة.
المشهد لم يعد مجرد أعمال صيانة أو توسعة طرق، بل أقرب إلى مذابح منظمة للأشجار، تحت غطاء ما تسميه السلطة "التطوير".
الإسكندرية.. من الترام إلى الخرسانة أحدث حلقات هذا المسلسل الدموي تجري في الإسكندرية، حيث بدأت السلطات في إزالة الأشجار الممتدة على طول شارعي الحرية وأبي قير، بذريعة "تطوير ترام الرمل".
غير أن ناشطين وخبراء اعتبروا أن ما يحدث ليس تطويراً، بل تمهيد لإلغاء الترام التاريخي الممتد منذ أكثر من قرن، واستبداله بجسور خرسانية ستطمس الطابع العمراني الساحلي للمدينة.
صور وفيديوهات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت اقتلاع أشجار يعود عمرها لعقود، وتحويلها إلى فحم نباتي لصالح شركات خاصة، وسط حديث عن ملكية إحداها لانتصار السيسي، زوجة الحاكم العسكري، ما يعكس شبهة مصالح شخصية وراء عمليات الإزالة.
انتقاداتشعبية .. #لا_لقطع_الأشجار تحت وسم "#لا_لقطع_الأشجار"، انتشرت آلاف التعليقات الغاضبة.
كتبت سوسن عبدالمنعم مطالبة بوقف المذبحة، مؤكدة أن الأشجار تمثل "رئة الإسكندرية"، ولا يمكن تعويضها بزراعة شتلات بديلة في مناطق أخرى، فيما اتهمت إيمان عقل السلطات بتنفيذ مخططات "تجارية" تقوم على تدمير ما تبقى من التراث الأخضر مقابل جسور علوية تُستغل أسفلها كمحلات وأسواق عشوائية تزيد الزحام وتشوه المدينة.
الأسباب العميقة.. اقتصاد مأزوم وديون متفاقمة
تحليلا لمشهد يكشف أن السبب أبعد من "تطوير النقل"، فالحكومة تراجعت عن مشروعات المترو المقترحة بالتعاون مع الصين وفرنسا؛ بسبب الأزمة المالية وغياب التمويل الأوروبي، ما دفعها إلى الحلول الأرخص والأسرع: الخرسانة على حساب الأشجار.
وفي ظل الديون الخارجية المتفاقمة، تبدو السلطة وكأنها تبحث عن مشروعات استعراضية توهم الداخل والخارج بالتنمية، بينما الثمن يُدفع من البيئة والتراث.
خبراء يحذرون
يؤكد خبراء البيئة أن ما يحدث يمثل جريمة مزدوجة: بيئياً: اقتلاع الأشجار التاريخية يفاقم من التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة داخل المدن.
عمرانياً: طمس الهوية التاريخية والمعمارية، واستبدالها بخرسانة مكررة لا تختلف من مدينة إلى أخرى.
اجتماعياً: تزايد الغضب الشعبي، خاصة مع إحساس الناس أن مشاريع "التطوير" ما هي إلا ستار لجباية جديدة لصالح مقاولين وشركات مرتبطة بدائرة الحكم.
الوجه الآخر للتنمية بينما تتباهى الحكومة بتقارير عن تقليل زمن الرحلة وزيادة الطاقة الاستيعابية للترام الجديد، يبقى السؤال الأعمق: هل التنمية تُقاس بسرعة المواصلات وحدها، أم بالحفاظ على التراث والبيئة والهوية؟ في إسطنبول وفيينا وبرشلونة، احتفظت المدن بترامها التاريخي وأشجارها، لتصبح رمزا ًسياحياً وحضارياً.
أما في الإسكندرية، فيبدو أن السيسي قرر التضحية بالتراث لصالح الخرسانة والفحم، غير عابئ بأصوات الخبراء ولا صرخات الأهالي.