منذ دخول الاحتلال الفرنسي ثم البريطاني إلى مصر، مرورًا بأسرة محمد علي، ووصولًا إلى الأنظمة الجمهورية المتعاقبة، كانت الطرق الصوفية محل اهتمام سياسي دائم، ليس فقط بسبب تأثيرها الروحي، بل أيضًا لما تملكه من شبكات اجتماعية واسعة وشرعية دينية شعبية.
وسعى المحتلون، الفرنسي والبريطاني، إلى احتواء الطرق الصوفية وتحييدها سياسيًا؛ بل واستخدامها أحيانًا كوسيلة لتهدئة الجماهير وبعض مشايخ الطرق الصوفية تعاونوا مع سلطات الاحتلال، بينما قاوم آخرون، مثل الطريقة الأحمدية في بعض مناطق الدلتا.
واستخدمت أسرة محمد علي الطرق الصوفية لتثبيت شرعيتها، وأنشأت المجلس الأعلى للطرق الصوفية لتنظيمها وربطها بالسلطة. ودعمت الطرق التي لا تتبنى خطابًا سياسيًا أو ثوريًا، بينما تم تهميش أو مراقبة الطرق ذات الطابع الإصلاحي أو المقاوم.
وفي عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، كان توظيف الطرق الصوفية بديلا آمنا في مواجهة الحركات الإسلامية السياسية، خاصة بعد صعود الإخوان والجماعات السلفية.
ودعمت الدولة احتفالات الموالد والطرق الكبرى، وأعطتها مساحة إعلامية وشعبية، مقابل التضييق على الحركات الإسلامية الأخرى.
وأعاد السيسي المنهجية العسكرية فاستخدم الصوفية كجزء من خطاب "تجديد الخطاب الديني"، وتُقدَّم كوجه معتدل للإسلام في مواجهة ما يدعى أنه "التطرف" وتم تعيين رموز صوفية في مؤسسات الدولة، مثل الأوقاف والإفتاء، وإبرازهم في المحافل الرسمية.
التوظيف السياسي
ورأى مراقبون أن الطرق الصوفية كانت دائمًا أداة في يد السلطة، تُستخدم لضبط المجال الديني والسياسي. وحافظت الطرق على التوظيف السياسي بمصالح مشتركة باستغلال ظرفي من قبل الأنظمة.
وقال الكاتب والمحلل السياسي قطب العربي عبر Kotb El Araby معلقا على "الاحتفالات الصاخبة والمبالغ فيها كثيرا هذا العام (2025) بمولد السيد البدوي أحد أقطاب الصوفية في مصر" إنه "..جزء من سياق عام لتوظيف التصوف الشعبي سياسيا كبديل، أو كقوة شعبية لمواجهة تيار الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والسلفي الحركي.".
و في مقالة بعنوان "التوظيف السياسي للصوفية في مصر" أوضح على فيسبوك أن السلطة بقيادة السيسي رفعت "شعار تجديد الخطاب الديني بما يعني عمليا نزع كل ما من شأنه الحث على الإصلاح، وتغيير "المنكر" السياسي، وأبشع هذا المنكر هو اغتصاب الإرادة الشعبية، وحكم الشعب قهرا، وفرض سياسات القمع والتجويع والصمت عليه، مع مطالبته بقبول هذه السياسات، واعتبارها أفضل الخيارات تجنبا لفوضى متوهمة!".
وأوضح أن "تجديد الخطاب الديني تضمن أيضا بعض القضايا الفقهية التي تبنى فيها النظام رؤى علمانية أراد إلباسها ثوب الدين، لكن الأزهر بقيادة الشيخ أحمد الطيب تصدى لها، وهو ما أحدث جفوة بين الطرفين دفعت السيسي للشكوى علنا " تعبتني يا فضيلة الإمام"، وفضيلة الإمام نفسه ينتمي للمدرسة الصوفية، وشقيقه شيخ لإحدى طرقها".
وأبان أن ذلك يكشف تبني السلطة "خطابا مزدوجا تجاه الخطاب الديني، فهي تسعى لتجديده وتحديثه بما يقربه من الرؤى العلمانية، وفي الوقت نفسه تشجع انتشار التصوف الشعبي بكل ما يحمله من دروشة، وتغييب للعقل، وتبني للخرافات التي يأباها التصوف القويم، المهم بالنسبة للسلطة الحاكمة هو إلهاء الشعب عن ممارساتها، وجرائمها بحقه، وبحق الوطن عموما".
وأشار إلى أن "المعركة بين الإسلام السياسي والنظم الاستبدادية في مصر ممتدة منذ مطلع خمسينات القرن الماضي عقب تولي الضباط الأحرار للحكم، وتحويل النظام من ملكي إلى جمهوري، قبل تلك الفترة لم تكن هناك مشاكل تذكر بين الإخوان باعتبارهم قلب الإسلام السياسي وبين الطرق الصوفية المنصرفة بطبيعتها عن معارك السياسة، فقد كان مؤسس جماعة الإخوان نفسه (حسن البنا) عضوا في الطريقة الحصافية الصوفية، وقد جعل ضمن تعريف الإخوان أنها "حقيقة صوفية، وبعد 1952 لم تكن هناك حياة سياسية، أو منافسة للضباط على سلطتهم بعد أن قضوا على كل المنافسين من يسار ويمين وإخوان، لكن مع عودة الحياة السياسية نسبيا منذ النصف الثاني للسبعينات بدأت السلطة تنتبه لأهمية كسب الطرق الصوفية، فأسست مجلسا أعلى للطرق الصوفية بالقانون 118 لسنة 1976، وحجزت مقعدا دائما في البرلمان لشيخ شيوخها، مع مقاعد متغيرة لشيوخ أو رموز صوفية أخرى، من خلال هذا المجلس استطاعت السلطة تحريك هذه الطرق وفقا لتوجهاتها، ودعما لسياساتها، مقابل توفير الحماية لهم في أضرحتهم، وموالدهم، ومناسباتهم المختلفة.( يتكون المجلس من عشرة أعضاء منتخبين من مشايخ الطرق الصوفية، وخمسه أعضاء مِن الأزهر والأوقاف والحكم المحلي والداخلية والثقافة معينين بحكم وظائفهم).".
وأشار إلى أنه "في أزمة نظام السيسي مع الإخوان عقب انقلاب 3 يوليو 2013 استخدم طرقا مختلفة للمواجهة بدأها بالقمع الشديد، والتصفية الجسدية سواء خلال فض الاعتصامات، أو في الشوارع، وحتى المنازل، وإصدار أحكام إعدام بالجملة، وأحكام حبس مؤبد، ومطاردة، ونفي، إلى جانب ذلك خاض ضدهم مواجهة إعلامية جند خلالها كل ما امتلك من منابر إعلامية، بل أسس المزيد منها، وأنتج عشرات المسلسلات والأفلام لتشويههم، ثم لجأ أخيرا لاستخدام ورقة الصوفية، ومحاولة صناعة ظهير شعبي له، وهنا يكمن سر اهتمامه بالموالد الصوفية الكبرى، وتسخير إمكانيات الدولة لصالحها، بل والسماح بالحضور الشعبي الضخم فيها (مليونا زائر في الليلة الكبيرة للسيد البدوي في طنطا) في وقت منع تماما أي تجمعات شعبية حاشدة أخرى، سواء للتعبير عن رأيها في سياسات داخلية، أو خارجية مثل مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة".
https://www.facebook.com/photo/?fbid=10162762494901749&set=a.10151753808401749
مع المحتل الفرنسي والخديوي
واستدعى الكاتب والمحلل السياسي محمد شعبان أيوب وصول الحملة الفرنسية على مصر وتعاون "الخواجة يعقوب النصراني" فضلا عن تعاون الشيخ خليل البكري، زعيم الطريقة البكرية، مع الاحتلال الفرنسي في مصر، حيث عُيّن نقيبًا للأشراف بعد رفض عمر مكرم التعاون مع الفرنسيين. كان البكري طوع أمر نابليون، حتى أنه دعاه لحضور المولد النبوي، كما يروي الجبرتي، في مشهد احتفالي شارك فيه الفرنسيون علنًا.
وأضاف أن أسرة البكري كانت ذات تأثير علمي وصوفي كبير منذ القرن الـ15، لكن خليل البكري مثّل نموذجًا للتوظيف السياسي للصوفية، حيث استخدمه الاحتلال كأداة اجتماعية لاحتواء الثورات.
وأشار إلى أنه وعند خروج الفرنسيين، ثار الناس عليه، فطُرد من مناصبه لتهدئة الغضب الشعبي.
واعتبر أن قصة "البكري" قصة تكشف كيف استُخدمت الطرق الصوفية – باستثناء من رحم ربي – كجزء من هندسة سياسية دولية، وهو ما أشار إليه تقرير راند الأميركي عام 2007، الذي أوصى بدعم الصوفية لإضعاف التيارات الإسلامية الأخرى. مع التأكيد أن هذا لا يُعد اتهامًا عامًا للصوفية، بل تحليل لواقع سياسي يُقرّب الصوفية البدعية ويقصي غيرها.
المستشار أيمن الورداني (أحد قضاة الاستقلال) عبر حسابه على فيسبوك أشار تحت عنوان: "ما أشبه الليلة بالبارحة" إلى أن " الأمور تسير على ما يرام وقد وصل تعداد زوار السيد البدوي هذا العام إلى مايقرب من ٢ مليون مصري مسلم ".
وأضاف، "حرص الاحتلال البريطاني على تغيير الهوية الدينية للشعب المصري بعد أن غادر تاركا مندوبه السامي ( المعتمد البريطاني ) لرعاية مصالحه كان أشهرهم " اللورد كرومر " الذي جعل همه تغيير الهوية الثقافية والدينية للمصريين فدعم الطرق الصوفية لتكون بديلا مشوها لمن يريد التوجه إلى الالتزام بالدين الإسلامي وأحكامه الشرعية التي تفرض على المسلمين الجهاد ومقاومة الاحتلال وكانت هذه العبارة ضمن تقرير مندوب الاحتلال إلى قيادته تحمل رسالة طمأنة بأن الأوضاع قد أصبحت تسير على ما يرام وعلى مرادهم … ".