يستغل النظام السلطوي العسكري في مصر نمط استخباراتي متكرر في الأنظمة السلطوية الأخرى من خلال السعى إلى امتصاص الغضب الشعبي دون السماح بتغيير حقيقي أو نمط "الانتقاد داخل الحدود الآمنة" وهو ما ظهر في وقت سابق من السماح بهذا النمط لأشخاص وضعوا لأنفسهم الخطوط الحمراء التي لا يكون هناك تجاوز بعدها وهم غير محسوبين على السلطة (بحسب خروجهم التالي ووضعهم في السجون أو إعادتهم إليها كما في حالة الراحل د.حازم حسني ود. يحيى حسين ود. القزاز وغيرهم)
الجديد أن هذا النمط يعود بأشخاص سلطويون مثل "عصام لالا" و"طارق مقلد" و"سالي صلاح" وأحيانا يكون من خلال باسم يوسف وإبراهيم عيسى وهي من نوعيات كتاب وباحثين ومستشارين وإعلاميين يُسمح لهم في حدود السوشيال فيه بانتقاد السياسات، أداء الحكومة، وحتى بعض تصريحات السيسي، لكن دون المساس بشرعية النظام نفسه ودون المطالبة بتغيير جذري في بنية السلطة فضلا عن دون تجاوز الخطوط الحمراء الأمنية أو المؤسسية وهم في دوائر محسوبة على النظام أو قريبة من دوائره، يظهرون "الانتقاد داخل الحدود الآمنة".
مقال “نتحمل ليه؟”!
والمستشار طارق مقلد ينتقد السيسي بلقبه المتدوال في دوائره مباشرة، لكنه يبدأ بـ "مجرد رأي شخصي" و"بكل احترام"، مما يُبقي الخطاب ضمن الإطار المقبول.
ويطرح أسئلة قوية مثل "نتحمل ليه؟"، لكنه لا يدعو إلى إسقاط النظام أو تغيير جذري، بل إلى "إعادة النظر في السياسات".
ويُحمّل الحكومة المسؤولية الأكبر، ويُبقي ل"الرئي$" مساحة "النية الطيبة"، وهو ما يُستخدم غالبًا لتفريغ النقد من مضمونه الثوري.
فيبدأ "مقلد" مقاله بأنه "مجرد رأي شخصي ومعرفش مين معايا ومين ضدي" معلقا على تصريحات السيسي أنها "حملت في طياتها الكثير من الرسائل"، و"كشفت حجم المأزق الذي تمر به الدولة" و وأنه "لم يجد مخرجًا واضحًا للأزمات المتتالية التي تضرب الوطن"، وكانت "نتحمل ليه؟" وعدة تساؤلات تاليه مكررا "نتحمل ليه" ومنها:
هل المطلوب من الشعب أن يدفع ثمن أخطاء وقرارات اقتصادية وسياسية أدت إلى إغراق الدولة في الديون وأفقدت المواطن الأمان في يومه وغده؟
ووجه الغضب في إطار "المعارض" ل"الحكومة" قائلا: "ونحن نرى حكومة عاجزة، لا تملك رؤية ولا خطة، حكومة لا تصلح لإدارة دولة بحجم مصر، بل أثبتت فشلها في أبسط ملفات الحياة اليومية، من الأسعار إلى الخدمات إلى العدالة الاجتماعية.. ونحن نشاهد بيع ممتلكات الشعب من مصانع وأراضي وشركات بأبخس الأثمان، وكأن ثروات مصر أصبحت سلعة في مزاد مفتوح بلا رقيب ولا حساب..".
كما لا ينفي شرعية المنقلب بالقول: "والآن تطالب شعبك بالصبر والتحمل، في حين أن هناك قرارات سيادية كانت سببًا مباشرًا في الاقتراض والسلف والدين حتى غرق الوطن في التزامات تفوق طاقته، ومعها انهار الجنيه وارتفعت الأسعار، وتفاقمت الأزمات، وازداد معدل الجريمة كنتيجة طبيعية لضياع الأمل وشدة المعاناة.. ونحن نعيش كل يوم معاناة مضاعفة — ارتفاع جنوني في الأسعار، انهيار في مستوى الخدمات، غياب العدالة، تراجع التعليم والصحة، وتآكل الطبقة الوسطى حتى كادت تختفي".
ويضيف "الشعب يا سيادة الرئيس لم يعد يحتمل، ولم يعد يبحث عن شعارات ولا وعود، بل عن حياة كريمة حقيقية، وقيادة تمتلك الشجاعة لتصحيح المسار، لا لتبرير الفشل.. لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في السياسات، وفيمن يديرون الدولة، لأن مصر لا تستحق هذا الكم من الإحباط والارتباك.. هل نتحمل أكثر… أم حان وقت التغيير الحقيقي؟".
كفاءات ممنوعة
وعلى غراره تقدم د. سالي صلاح Sally Salah وتعرف نفسها " خبيرة التخطيط الاستراتيجي والاقتصاد والتسويق الدولي" الدوس على الهدف نفسه أن التغيير هو في إطار "الحكومة" في إطار "مدبولي" وهو نمط تكرر بتغريدات سريعة وليس على مستوى الكم الكبير من الاتهامات التي يقول الشارع أقوى منها ويدرك كل ما فيها..
وبعنوان " حكومة مدبولي: آخر الوجوه قبل الانهيار المؤسسي" قالت "..لم يعد تبديل الحكومات أو البرلمانات انعكاسًا لرؤية أو تقييم أداء، بل تدويرًا روتينيًا للوجوه بعد أن تُستنزَف شعبيًا ومؤسسيًا، ليُستبدل بها وجوه "نظيفة السجل" شكليًا، لكنها مُقيَّدة بالأسقف ذاتها، ومُلزَمة بالسياسات ذاتها، ومحكومة بالحسابات ذاتها".
وتضيف في ترادف لفظي المشكل ".. بلد تمتلك كل مقومات القوة، لكنها تُدار بعقلية الجباية لا التنمية، والولاء لا الكفاءة، والإنفاق على المظهر بدل الجوهر. " مضيفة بعض الوصف "موازنة الدولة تُنزف على الفوائد والديون، لا على الإنسان والتعليم والصحة، وأصبح الاستثمار الحقيقي في الشعارات لا في العقول.. ".
وبعد استمرار الاطناب تخلص إلى أن "هذا ليس فقر موارد… هذا فقر إدارة." وأن الإدارة تفقد بوصلتها، وينهار الاقتصاد مهما كثرت الثروات، ويُصبح الشعب يدفع ثمن أخطاء لم يرتكبها، وسياسات لم يشارك في صنعها.".
وتسرد بعض أيضا من الذي يعرفه الناس بأرقام خلال 11 سنة:
ارتفع الدين الخارجي من نحو 43 مليار دولار إلى أكثر من 161.5 مليار دولار.
قفز الدين المحلي إلى ما يتجاوز 14.95 تريليونات جنيه.
تجاوز العجز الكلي في الموازنة حاجز 1.85 تريليون جنيه سنويًا.
العجز التجاري 51 مليار دولار
انهار الجنيه المصري من 7 إلى نحو 50 جنيهًا للدولار.
التضخم التراكمي من 2014 إلى 2025 تجاوز 800% – 900%.
اللي كنت تشتريه بـ 100 جنيه في 2014 عايزله دلوقتي 900 جنيه تقريبًا عشان تشتري نفس الحاجة في 2025.
ده معناه إن القيمة الحقيقية لدخل المواطن انهارت 9 أضعاف، والطبقة الوسطى اختفت تقريبًا من الخريطة الاقتصادية.٪، في حين الأجور شبه ثابتة، والقدرة الشرائية تبخّرت.
وترى أن "فالمشكلة ليست في الأشخاص، بل في غياب الإرادة السياسية للإصلاح الحقيقي. أي رئيس وزراء قادم — مهما بلغت كفاءته — سيدخل إلى موقعه مكبّلًا بمنظومة قرارات جاهزة، صُمّمت دون مراجعة، ونُفّذت دون مساءلة، وثُبّتت دون رؤية".
ثم توجه المطالب إلى "حكومة الكفاءات الحقيقية" ثم تتجه إلى الخلاصة وهي استبعاد التغيير من قبل الثورة ! بجملة "الثورات فتحت الباب للتغيير، لكن من دخلوا منه أغلقوه خلفهم بإحكام. .".
وأن "الطريق الثاني": استمرار التحكم الأمني في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، تحت شعارات التحديث، بينما تدور البلاد في دوّامةٍ بلا مخرج… مهما تغيّرت الوجوه، وتبدّلت العناوين.
تحليل مقال "سالي صلاح" أنه يقدم إدانة للأداء الحكومي، لكنها تُبقي على فكرة أن "الكفاءات ممنوعة" بسبب "المنطق الأمني"، دون تسمية هذا المنطق أو الدعوة إلى تفكيكه.
وتنتقد "تدوير الوجوه" و"إدارة الانهيار"، لكنها لا تطرح بديلًا خارج المنظومة، بل تكتفي بالتحسر على "الطريق الثالث" الذي لم يُطرح أصلًا.
خطاب مسموح ومروج له
وتسمح الإدارة السلطوية للنظام بذلك؛ لإظهار هامش حرية شكلية أمام الداخل والخارج، ولإعادة توجيه الغضب الشعبي نحو الحكومة أو السياسات، دون تحميل رأس النظام المسؤولية الكاملة، ولإبقاء النخبة المثقفة داخل اللعبة، عبر السماح لها بالتنفيس دون التمرد.
الخطورة برأي مراقبين أن نمط الغضب داخل الحدود الآمنة لعدم التغيير إلى في حدود بعض الرؤوس، يُعطي انطباعًا زائفًا بوجود نقاش سياسي حقيقي، ويُستخدم كـ"صمام أمان" لتأجيل الانفجار الشعبي، دون معالجة الأسباب الجذرية، ويُفرغ المعارضة من مضمونها، ويُحولها إلى نقد وظيفي يخدم استقرار النظام لا تغييره.
ويقول مراقبون إن "ما نراه ليس تحولًا ديمقراطيًا، بل إدارة ذكية للغضب. النظام يُعيد إنتاج نفسه عبر أصوات تبدو مستقلة، لكنها تعمل ضمن سقف مرسوم. وكلما اشتد الضغط، يُسمح بمزيد من النقد… لكن دون أن يُفتح باب التغيير الحقيقي.".
ويشيرون إلى أن الانتقادات التي تصدر أحيانًا من مقربين من السلطة أو من داخل اللجان الإلكترونية لتصريحات الرئيس السيسي لا تعكس بالضرورة تحولًا ديمقراطيًا، بل غالبًا ما تكون جزءًا من نمط محسوب لاستيعاب الغضب الشعبي أو إعادة توجيه الخطاب العام ضمن حدود آمنة.
التكتيك الإعلامي
نمط جديد للتعامل؟ لكنه ليس ديمقراطيًا بالكامل. ما يبدو كـ"انتقاد داخلي" هو في كثير من الأحيان تكتيك إعلامي لإظهار تعددية شكلية، دون السماح بانتقاد جوهري أو تهديد حقيقي للسلطة. ويُستخدم لخلق انطباع بأن النظام "يسمح بالنقد"، بينما يتم التحكم في سقف هذا النقد بدقة.
وضمن ثقافة الاستيعاب توجه الانتقادات غالبًا للأسلوب أو التوقيت أو اللغة، وليس على السياسات أو القرارات الكبرى وهم ضمن اللجان الإلكترونية الموجهة أحيانًا لانتقاد تصريحات معينة، ثم إعادة تأطيرها لاحقًا كـ"سوء فهم" أو "اجتزاء"، مما يسمح للنظام بالظهور بمظهر المتفاعل دون التراجع.
في فبراير 2024، أثار تصريح السيسي حول معبر رفح جدلًا واسعًا بعد أن قال الرئيس الأمريكي إن السيسي "لم يرغب في فتح المعبر"، ما استدعى ردودًا متباينة من اللجان الإلكترونية، بعضها انتقد التصريح، ثم عاد للدفاع عنه.
في حالات أخرى، يتم انتقاد تصريحات مثل "سأحاج الجميع يوم القيامة" أو "لا تصالح"، ثم يُعاد تفسيرها بأنها تعبيرات شخصية لا تمس جوهر السياسة.
ولإعادة ضبط المزاج العام عندما يتصاعد الغضب الشعبي، يُسمح بانتقادات محدودة لامتصاص الثورة ولإظهار مرونة شكلية أمام المجتمع الدولي، خاصة في ظل تصاعد تقارير حقوق الإنسان المشينة للسلطة العسكرية. ولإعادة توجيه اللوم نحو أطراف تنفيذية ومنها رئيس حكومة السيسي أو إعلامية، دون المساس برأس السلطة، فالخطوط الحمراء لا تزال قائمة ولا يُسمح بانتقاد السياسات الأمنية، أو ملفات الاقتصاد الكبرى، أو العلاقات الدولية والإقليمية الفوقية.
ومن ينتقد خارج هذه الحدود يُواجه بالتشهير أو المحاسبة، كما حدث في حالات سابقة مع إعلاميين أو نشطاء سبق ذكرهم وإيداعهم السجون وإخراجهم وتحديد إقامتهم أو تعريضهم بشكل متكرر للوقوف أمام المحاكم السلطوية.
سيكولوجية الجماهير
الكاتب زهير سالم @zohersalm مدير مركز الشرق العربي أعاد النظر في كتاب "سيكولوجية الجماهير" للمفكر والفيلسوف الفرنسي "غوستاف لوبون" قائلا: "لتعلموا أو تتعلموا الكثير، الذي ليس فيه على أهل الإسلام جديد…!! هم هم وإنما الجديد بديع التصنيف والتبويب والتفريد!!".
وأضاف "لقد علم مربو المواشي في عالمنا، أنه لا بد للقطيع من مرياع.. ومن لم يحط، فليسأل، عن المرياع الذي يضبط خطو القطيع. ولا بد للإبل من حادٍ، والحادي ضابط إيقاع سير القطعة من الإبل، ومن هنا جاءت الوصية لأنجشة رويدك سوقك بالقوارير.. اجعل الإيقاع وئيدا ففي حمولتنا زجاج…".
وتابع: "من ذلك وذاك وهذا أقفز بكم إلى حمّى الجماهير وودت لو كانت الجماعير تتراقص أو تتمايل على وقع أغنية، أو تندفع حتى الموت مع خطاب مسكون بنعرة نازية تعلي شأن الأنا، وتقلل من قيم الآخرين. الأنا الآرية الكبيرة التي لا تزال تكمن أو تتمظهر في دعوات الكثيرين..".
وعن موقف قريب يقول: "أرى الجماهير تثور وتغور وراء كرة تحركها قدم، فيكون وراء تلك الحركة رضا وغضب، وتهديم وتخريب!! وبينما الجوع يعم العالم: لا أحد يريد أن يسأل عن موازنة الأولمبيادات حول خيام الجائعين…!! بالأمس كانوا يتفاخرون علينا بنصر مزيف مهين!! ".
وأضاف عن التعامل التقليدي بالالهاء والذي يغوص فيه البعض مجددا دون التفات، أنه "منذ أيام في مصر ذكرى مولد السيد البدوي.. وزعموا أنه قد احتشد بمناسبة هذه الذكرى مليون الإنسان، تذكروا صورة الفراش يتقحمن في النار.. على ماذا!! ومن أجل ماذا؟؟.. وفي التوقيت نفسه، حتى لا تظنوا الظاهرة البدوية ظاهرة مصرية أو عربية، أو إسلامية، نعيش منذ ثلاثة أيام هنا في لندن، مناسبة تسمى عيد الأنوار عند المجتمع الهندي: الأرواح الهائمة تحتاج في مثل هذا اليوم إلى مصدر للنور لكي تصير إلى مثواك، بالطريقة الجماهيرية نفسها، طريقة الفراش المتقحم في النار، ما زلنا نقضي ليالينا مفعمة بالمفرقعات الليلية، حتى لا نكاد ننام، وتكاد تجزم أن ما يصرف على تلك المهرجانات، وما أجمل اشتقاق المهرجان من الهرج، قد يساعد إلى حد كبير في طي صفحات الجوع في الهند..!! هل حدثك أحد عن الجوع في شبه القارة الهندية؟؟".
