عقب قرار حكومة الانقلاب برفع أسعار الوقود تشهد الأسواق موجة غلاء تطال كل مفاصل الحياة اليومية، من المواصلات والنقل إلى المواد الخام وتكاليف التشغيل ..، هذه الزيادات لم تمر مرورًا عابرًا، بل مست حياة الأفراد العاديين الذين يعيشون حالة شظف، ويحاولون جاهدين الموازنة بين طموحات أطفالهم ودخل يومى غير مستقر.
لهيب الأسعار أصبح كالنار التى تشتعل فى البيوت من الداخل، وهو ما اضطر الأسر إلى مقاطعة السلع ذات الأسعار المرتفعة كاللحوم والفراخ وتقليص الكميات التى يشترونها من السلع الاخرى .
فى هذا السياق كشف سعيد أن أبنائه يسألونه عن نزهة بسيطة أو هدية صغيرة، لكنه لا يملك إلا التهرب بجملة معتادة: إن شاء الله فى الإجازة .
وأضاف : الجيب فارغ، وعند شراء أى شئ أحسب الجنيهات المتبقية لأحدد ما إذا كان بإمكانى شراء شيء بسيط، .
وجبة دجاج
فى الوقت نفسه، تعيش نسرين وضعًا مشابهًا، إذ حاولت مرة تجهيز وجبة من الدجاج، وعندما علمت ابنتها بالسعر المرتفع، انفجرت باكية وسألت : ليه كل حاجة غالية يا ماما؟ .
فى داخل البيوت، تتحول ضغوط الإنفاق اليومى إلى جدال دائم بين الزوجين، سماح، ربة منزل، تروى كيف يتهمها زوجها بالإسراف وعدم التوفير، بينما هى ترى أن الأسعار نفسها لم تترك لها مجالًا لتكون اقتصادية، وتقول إنهم أحيانًا يتخاصمون ليلًا بسبب تعبير جارح أو اختلاف فى نظرة الميزانية .
التجار الكبار
منى، بائعة فى كشك صغير، تتحدث عن الضغوط التى يفرضها التجار الكبار لرفع الأسعار، إذا رفضت، يقللون الكمية أو يتهمونها بالجشع، أما البائع الصغير، فهو بين نارين: إما أن يرفع السعر ويخسر زبائنه، أو أن يرفض ويرفضه المورد، يروى أحدهم كيف أُجبر على شراء الكرتونة بسعر مرتفع، وأُبلغ بأنه لا يجوز له البيع بسعر أقل من التاجر الكبير، وإذا خالف، يُعاقب بعدم التوريد فى المرات القادمة،
أبو كريم، مستهلك يقول إنه ناقش أحد التجار حول الزيادات المفاجئة، فقيل له إن هذه هى «أسعار السوق»، لكنه يرى أن تبرير كل شيء بالسوق نوع من المراوغة، الأسعار تُرفع أحيانًا قبل أن تعلن حكومة الانقلاب زيادات رسمية، وبعض التجار يخزنون البضائع عمدًا ليقللوا المعروض ويهيئوا الأجواء لرفع الأسعار لاحقًا،
عمال اليومية
عمال اليومية معاناتهم صامتة ومستمرة، يقول محمود، إنه يعمل فى البناء أو النظافة أو النقل حسب الفرص المتاحة، وفى بعض الأيام لا يحصل على أى دخل، وفى أيام أخرى يعود إلى بيته بـ 50 جنيهًا لا تكفى شيئًا،
وكشف أنه يعرض عليه العمل دون تحديد أجر مسبق، ثم انتهى اليوم دون أن يتلقى شيئًا، أما عصام، فيتنقل بين عدة وظائف فى اليوم، من السواقة إلى العمل فى ورشة، لكن دخله لا يكفى حتى ثمن المواصلات،
كمال، عامل آخر، يحكى عن لحظة ألم حين اضطر إلى إرسال ابنه إلى المدرسة دون مصروف، مكتفيًا بقطعة خبز، وشعر حينها أنه يطفئ نور حلم صغير فى عيون طفله .
سلع بالجملة
فى المقابل، تُولد المعاناة نوعًا من التضامن، هدى، أم لثلاثة أطفال، تقول إنها اتفقت مع جيرانها على شراء سلع بالجملة وتقسيمها، وحتى الطهى المشترك بات وسيلة لتوفير الغاز، كذلك، انتشرت أفكار المقاطعة الجزئية كنوع من الضغط على التجار، رغم صعوبة تنفيذها مع المواد الأساسية .
حسناء تتحدث عن تخفيف الالتزامات الاجتماعية، ورفضها حضور دعوات لأنها لم تعد قادرة على تحمّل التكاليف، أما أمينة، فتشارك تجربتها مع العائلة فى تنظيم «ديش بارتي» حيث يجلب كل شخص طبقًا مشتركًا، مما يُخفف العبء عن المضيف، ويُعيد روح المشاركة والبساطة،
ميزانية الربع كيلو
«ميزانية الربع كيلو» أصبحت واقعًا يعيشه الملايين. فى سوق شعبى بالدقى، كانت «أم أحمد» تتنقل بين البائعين بحثًا عن أقل سعر للحوم، وتقول: كنت أشترى كيلو لحم أسبوعيًا، أما الآن فلا أقدر على أكثر من ربع كيلو، أقطّعه وأضيفه للخضار حتى يكفى الأسرة .
هذا التحول فى العادات لم يقتصر على أسرة واحدة، بل أصبح نمطًا عامًا. كثيرون اتجهوا نحو تقليل الكميات التى يشترونها، والاعتماد على مصادر بروتين أرخص مثل العدس والفول، لتوفير وجبات مشبعة بأقل تكلفة.
«عم حسن»، سائق وأب لثلاثة أطفال، يقول :ربع كيلو لحمة يخلينى أحس إنى ما حرمتش عيالى، والباقى بنعتمد فيه على البقوليات .
الأرقام والرواتب
الأرقام تعكس بوضوح ما يشعر به الناس، الزيادات الأخيرة فى أسعار الوقود تراوحت بين 12% و33%، مما أدى إلى زيادة فى تكاليف النقل بنسبة تقارب 20%، التضخم بدوره التهم القدرة الشرائية للناس، بينما بقيت الرواتب شبه ثابتة، بعض الأسواق شهدت تراجعًا حادًا فى حركة البيع، وصار الباعة يبيعون بمبالغ بسيطة لا تكفى حتى لتغطية الإيجار أو الكهرباء،
فى عمق هذه الأزمة، تقف عدة عوامل متشابكة، حكومة الانقلاب، ضمن خططها لما يسمى الإصلاح المالى، بدأت بتقليص دعم المواد البترولية لتقليل العجز، مما أدى إلى تحميل المواطن النهائى تكلفة الزيادات، فى المقابل، لا تتواكب الرواتب مع معدل التضخم، مما يخلق فجوة متزايدة فى القدرة الشرائية، أما السوق، فباتت ساحة احتكار واستغلال، حيث تُخزّن السلع وتُرفع الأسعار وفقًا لتوقعات الجشع لا ضرورات الواقع، فى ظل غياب شبكة حماية اجتماعية قوية، يواجه الفقراء يومهم بلا سند، والعامل بلا تأمين، والمستهلك بلا حماية،
أطفال المدارس
تغير النمط الغذائى امتد حتى إلى أطفال المدارس، تقول معلمة فى مدرسة ابتدائية: لاحظنا أن كتير من الطلاب بيجوا بدون سندويتشات، أو معاهم قطعة صغيرة جدًا من الخبز، وتحكى عن طفلة طلبت أن تشرب من زجاجة ماء زميلتها لأنها لم تحضر حتى زجاجة خاصة بها. الجانب النفسى يتفاقم أيضًا، مع شعور متزايد لدى الآباء والأمهات بالعجز أمام متطلبات أبنائهم، «سعيد»، يعمل فنى صيانة، يقول: ابنى طلب منى جزمة جديدة، وما قدرتش أقول له لأ، فقلت له نستنى شوية لحد ما ينزل عليها خصم، قلبى اتكسر لما شفته ساكت بس زعلان، مشهد يتكرر فى آلاف البيوت، حيث يتحول كل طلب بسيط إلى عبء نفسى وقرار اقتصادى صعب.
