عادت وقائع نهب الآثار في مصر إلى الواجهة بعد إعلان القبض على ثلاثة ضباط شرطة ضمن تشكيل واسع للتنقيب في منطقة دهشور الأثرية، في حادثة تعيد سؤالاً بات مُحرجاً:
هل أصبحت مافيا الآثار جزءاً من بنية الحكم بعد انقلاب 2013؟
فعلى مدار العقد الماضي، تزايدت عمليات التنقيب غير المشروع، ووُجّهت أصابع الاتهام بشكل متكرر إلى عناصر داخل الجيش والشرطة والهيئات القضائية، في سياق اتهامات أوسع بأن النظام يمنح "ضوءاً أخضر" ضمناً لتلك الشبكات، مقابل استمرار ولاء الداعمين الأساسيين للسلطة.
وفي واقعة دهشور الأخيرة، لم يكن الجناة عصابات هامشية، بل مأمور مركز شرطة البدرشين وضباط آخرون، جرى إيقافهم عن العمل والتحفظ عليهم بعد أن كشفت التحقيقات توفر تمويل ضخم، وتجهيزات مهنية، واتصالات واسعة تشير إلى شبكة منظمة، لا مجرد مغامرة فردية.
هذه الواقعة أعادت طرح السؤال القديم:
كيف يكون “حاميها” هو المتهم بسرقتها؟
وكيف بات ضباط برتب مؤثرة يديرون عمليات حفر تتطلب معدات وتمويل وعلاقات ونفوذاً لتمريرها دون اكتشاف؟
لماذا انفجرت سرقات الآثار بعد 2013؟ تحليل سياقي
1. انهيار منظومة الرقابة وتمدّد النفوذ الأمني
منذ انقلاب 2013، ازداد نفوذ الأجهزة السيادية على حساب المؤسسات المدنية، ما خلق بيئة من الحصانة غير المعلنة وفّرها الانخراط العميق للأمن في السياسة والاقتصاد، لتتحول بعض القطاعات، ومنها الآثار، إلى مجال مفتوح للفساد.
2. اقتصاد الأزمة وسوق سوداء مربحة
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر، تمددت سوق الاتجار بالآثار، وهي تجارة تدر ملايين الدولارات. ويشير خبراء إلى أن انتشار حفريات ضخمة مجهّزة بمولدات ورافعات لا يمكن أن يمر دون تغطية من أطراف نافذة.
3. تواطؤ مسؤولين محليين وأمنيين
منهجية العمل في دهشور — حفرة عميقة، معدات ثقيلة، تمويل نقدي، وشركاء من موظفي آثار سابقين — تعكس "إدارة متخصصة" لا يمكن أن تعمل دون حماية رسمية.
4. اتهامات بدور سياسي: دعم مقابل التغاضي
ينقل باحثون ومنظمات حقوقية أن النظام منذ 2013 اعتمد على كتلة صلبة من الجيش والشرطة والقضاء لضمان ولائه، وهو ما خلق بيئة تُتهم فيها السلطة بغضّ الطرف عن أنشطة غير مشروعة بدلاً من الصدام مع حلفائها.
دهشور… مؤشر على تطور "المافيا الرسمية" للآثار
دهشور منطقة ذات أهمية أثرية فائقة، تضم مدافن ملكية وأهرامات نادرة. ورغم حملات متكررة، عُرفت خلال السنوات الماضية بأنها مسرح لعصابات بحث مدعومة بنفوذ محلي، تتقاطع فيها مصالح مقاولين وتجار ووسطاء.
الواقعة الأخيرة كشفت:
تورط ضباط كبار في تغطية الحفر.
ضبط 14 متهماً بينهم موظفون سابقون بالآثار.
وجود معدات احترافية ومبالغ مالية ضخمة.
تلقي الجهاز القضائي تسجيلات اتصالات وتحقيقات موسعة عن شبكات تمتد خارج القرية.
أبرز سرقات وعمليات تهريب الآثار منذ 2013
فيما يلي رصد لأهم الوقائع الموثقة في الإعلام والبيانات الرسمية، منذ انقلاب يوليو 2013 وحتى الآن:
2014 – تهريب آثار عبر حقائب دبلوماسية
اتهامات بتورط مسؤولين في نقل قطع أثرية إلى الخارج باستخدام غطاء دبلوماسي، في واقعة أثارت جدلاً واسعاً ولم يُكشف عن أطرافها بشكل كامل.
2015 – العثور على مقبرة منهوبة في سقارة
ضبط قطع أثرية نادرة بحوزة شبكات محمية من شخصيات نافذة محلياً.
2017 – قضية “شقة الزمالك”
ضبط آلاف القطع الأثرية داخل شقة مملوكة لقاضٍ سابق، في واحدة من أكبر القضايا المثيرة للجدل.
2017 – ضبط عصابة آثار يقودها ضابط جيش
قُبض على ضابط برتبة عقيد بتهمة الإشراف على شبكة تنقيب في المنيا.
2018 – تهريب 21 ألف قطعة أثرية إلى إيطاليا
عثرت السلطات الإيطالية على شحنة ضخمة من آثار مصرية خرجت رسمياً داخل حاوية “دبلوماسية”، ما أثار اتهامات بوجود غطاء من مؤسسات سيادية.
2019 – حبس مسؤول سابق بالآثار في قضية سرقة معابد الصعيد
تورط موظفين يعملون في وزارة الآثار مع وسطاء بتسهيل نقل قطع نادرة.
2020 – قضية رجل الأعمال حسن راتب والبرلماني علاء حسانين
ضبط شبكة ضخمة تضم شخصيات سياسية ورجال أعمال وضباط شرطة سابقين، في واحدة من أضخم قضايا “مافيا الآثار”.
2021 – تهريب قطع أثرية إلى دول الخليج
ضبط محاولة تهريب مجموعة قطع ثمينة عبر مطار القاهرة، وسط تسريبات عن حماية أمنية عليا.
2023 – تورط ضباط شرطة في تنقيب غير مشروع بأسيوط
ضبط شبكة يقودها ضابط شرطة، ما كشف امتداد الظاهرة خارج القاهرة.
2024–2025 – تصاعد الحفريات غير الشرعية في الجيزة والمنيا
تقارير تشير لزيادة العمليات الاحترافية باستخدام معدات هندسية، مع شبكات تمويل مجهولة.
تداخل المصالح بين مافيا الآثار وشبكات نفوذ أمنية وقضائية جعل عمليات النهب مستمرة ومنهجية، لا مجرد جرائم فردية.
واقعة دهشور ليست انحرافاً، بل نتاج بيئة سياسية وأمنية تزايد فيها نفوذ الأجهزة بعد انقلاب 2013، ما أضعف الرقابة، وخلق شبكات محمية امتدت من القرى إلى المنافذ الدولية.
ولذلك، بات السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم:
هل يمكن وقف نزيف الآثار بينما المتهمون — في كثير من الأحيان — هم من يفترض بهم حماية التاريخ؟