تختصر حكاية مدينة حلب مع الثورة الكثير من مشهد التخلي العالمي عن الشعب السوري.
ومنذ وصفت بعاصمة الثورة في 2012، حتى باتت مسرحًا لأكبر إبادة في القرن الواحد والعشرين، تُرجمت فيها كل التحولات الإقليمية والدولية التي جعلت المدينة متروكة بالكامل، وعشرات آلاف مدنييها مستباحون على يد قوات النظام والمليشيات المساندة له.
مدينة كان اسمها ينافس شهرة سورية عالميًّا، لناحية أنها ثاني أكبر المدن السورية بعد العاصمة دمشق، وأهمها لجهة المكانة الاقتصادية والإرث التاريخي والثقافي، وأبرز المدن الصناعية والتجارية في سورية، وكانت تتمركز فيها أضخم وأهم المعامل والمصانع، خصوصًا النسيج الذي تتميز به المدينة على مستوى العالم.. أما اليوم، فصارت شهرتها مصنوعة من الدم ووحشية الغزو.
في بداية عام 2011، اتجهت الأنظار إلى مدينة حلب، حين كان يسكنها وأريافها الواسعة نحو أربعة ملايين ونصف المليون شخص، قبل أن يضطر عدد كبير منهم للنزوح والهجرة بسبب الحملات العسكرية المتلاحقة، خصوصًا إلى الجزء الشرقي من المدينة، والأرياف المحيطة بها.
انتظر السوريون ردة فعل مدينة قادرة على تحديد راهن ومستقبل سورية نظرًا لما تمتلكه من مؤهلات تاريخية، واقتصادية، ومكانة متقدمة في نفوس السوريين. ترددت حلب في البداية، إذ قفزت إلى أذهان الحلبيين مشاهد مجازر ارتكبها نظام حافظ الأسد بحقهم في منتصف عام 1980، أبرزها مجزرة حي المشارقة التي قُتل فيها العشرات من المدنيين الذين كانوا يمرون في ذاك الحي صبيحة عيد الفطر، كما أخرجت قوات النظام عائلات من بيوتها وأعدمت أفرادها على الفور، بسبب إطلاق نار من مجهولين على عناصر من "القوات الخاصة" التي كان يقودها حينذاك العميد هاشم معلا، أكثر ضباط الأسد الأب وحشية ودموية. ولكن تردد حلب لم يطل، خصوصاً أن قوات وأجهزة النظام بدأت تفتك بالسوريين، فخرجت تظاهرات في بعض أحياء المدينة وفي جامعتها، سرعان ما واجهها شبيحة النظام وأجهزته بالبطش الشديد. في هذه الأثناء، كان الريف الحلبي يغلي ثورة على النظام، وعيون ثواره ترنو إلى المدينة.
أيقن السوريون بعد فترة أن مسعاهم بإسقاط النظام لن ينجح عبر التظاهرات خصوصًا أنها تُقمع بشدة، مع بدء سماء سورية تمطر براميل متفجرة تلقيها طائرات ومروحيات نظام قرر وأد الثورة حتى لو كلفه الأمر قتل ملايين السوريين. في بدايات عام 2012 بدأ العمل المسلح، ومعه بدأت حلب تسمع أصوات الرصاص في أريافها التي سقطت تحت سيطرة الجيش السوري الحر، الذي قرر منتصف ذاك العام دخول حلب والسيطرة على أحياء يمكن أن تكون قاعدة للسيطرة على كامل المدينة، فخرج حي صلاح الدين، في غربي المدينة، عن سيطرة النظام أواخر يوليو/ تموز من ذاك العام.
ثم دخلت فصائل المعارضة السورية من ريف حلب الشمالي إلى الأحياء الشرقية من حلب، والتي بدأت تخرج تباعًا عن سيطرة النظام، حتى بدت حلب في ذاك العام على وشك التحرير الكامل، إلا أن النظام تحصن في الأحياء الغربية فانشطرت حلب إلى شرقية وغربية منذ ذاك الحين. سيطرت المعارضة على أكثر من نصف المدينة والذي يضم 36 حيًّا في شرقي وغربي وجنوب حلب، فخلقت واقعًا جديدًا في كبرى مدن الشمال السوري بقي على حاله لسنوات حتى بدأت محاولات قوات النظام والمليشيات السيطرة على هذه الأحياء بعد التدخّل الروسي المباشر في سورية في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي.
تعرضت الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة لحملات قصف طيلة سنوات، أعنفها حملة البراميل المتفجرة في بداية عام 2014 التي أدت إلى مقتل وإصابة آلاف المدنيين، وتهجير نحو مليون مدني، ودمار كبير. كما لم يتورع نظام الأسد عن قصف هذه الأحياء بصواريخ "سكود" من قواعد شرقي دمشق، خلّفت مئات الضحايا ودماراً كبيراً في منازل المدنيين.
أيقن النظام أن إعادة السيطرة على الأحياء الخاضعة للمعارضة لن تتم من دون فرض حصار كامل عليها، وقطع خطوط الإمداد عن فصائل المعارضة، فحاول مرات عدة، ولكنه في كل مرة كان يفشل أمام تصدي المعارضة المسلحة لهذه المحاولات.
ولكن الطيران الروسي وفّر لقوات النظام والمليشيات الحليفة له غطاء نارياً مكّنها في يوليو/ تموز الماضي من السيطرة على طريق الكاستيلو، فقطع الشريان الوحيد الذي تعتمد عليها المعارضة ونحو 300 ألف مدني في استمرار صمودهم.
في العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدأ الطيران الروسي ومقاتلات تابعة للنظام حملة قصف جوي واسعة النطاق، وبدا واضحاً أن هدف موسكو هو إخراج المعارضة وإخضاع الأحياء التي تقع تحت سيطرتها في حلب. لم يكترث الروس بالغضب الدولي وواصلوا حرب الإبادة التي تخللتها هدن هشة سرعان ما كانت تنهار مع استمرار قوات النظام بالعمليات العسكرية، وعدم تسهيل وصول مساعدات إنسانية.
في منتصف الشهر الماضي، انطلقت قوات كبيرة تابعة للنظام والمليشيات من اللواء 80 العسكري شرقي المدينة للسيطرة على الأحياء الشرقية من حلب، فكانت البداية من حي هنانو، لتبدأ المعارضة تحت ضغط ناري غير مسبوق، ومجازر تُرتكب بحق المدنيين، بالتراجع حتى باتت بضعة أحياء فقط بحوزتها.
حلب التي يُطلق عليها "الشهباء"، التي تعني "الأبيض"، نسبة إلى حجارتها البيضاء التي بُنيت منازلها منها، لم تعش مأساة شبيهة بمصيبتها الراهنة منذ سيطرة تيمورلنك عليها أواخر عام 1400، حين استباحها جنوده ثلاثة أيام، فقتلوا أغلب أهلها وحرقوا بيوتها. وسبقه هولاكو الذي استباح المدينة لأيام أواخر عام 1259 وبداية عام 1260 وأحرقها، ونشر الموت والخراب في أرجائها.
ويشبّه سوريون ما يجري اليوم في مدينة حلب من قتل واغتصاب واستباحة مفتوحة من قبل قوات الأسد والمليشيات الحليفة له، بما جرى على أيدي هولاكو وتيمورلنك، إلا أن هناك فارقاً واحداً وهو أن المذبحة تتم على مرأى ومسمع عالم يتفرج.
تُعد حلب من أقدم المدن المأهولة في العالم، ومرت عليها حضارات إنسانية عديدة، ودُمرت مرات عدة، ولكنها كانت تنهض في كل مرة.
كانت عاصمة الحمدانيين، والمدينة التي أبدع فيها أبو الطيب المتنبي. منها انطلق محمود بن عماد زنكي موحداً للشام، وممهّدًا الطريق لصلاح الدين محررًا للمسجد الأقصى. كانت المدينة الثانية بأهميتها في الإمبراطورية العثمانية بعد اسطنبول، تفتخر بأسواقها، وأبوابها التاريخية، وبقلعتها التي بنيت في عصور غابرة، وظلت شاهدة على ما مرت به حلب من أمجاد، وما عاشت من مآسٍ وأهوال. لا توجد أرقام موثقة لعدد القتلى والمصابين والمهجرين في حلب على مدى سنوات الثورة التي تقترب من نهاية عامها السادس، فالأعداد كبيرة ولم تعد هناك جهات محايدة توثّق ما يجري.
لكن نائبًا في البرلمان الفرنسي اختصر ما يجري في المدينة، بالقول: "الإنسانية تموت في حلب".