لم يكن التوقف المفاجئ لتشغيل مولدات الكهرباء والتصريف غير المتوقع لمياه سد النهضة الإثيوبي مجرد خلل فني عابر؛ بل كشف عن قنبلة مائية موقوتة تهدد الأمن المائي والغذائي في مصر والسودان، بعد سنوات من التفريط الرسمي الذي ارتكبه المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي بتوقيعه اتفاق المبادئ عام 2015، مانحًا أديس أبابا الشرعية الكاملة لبناء وتمويل وتشغيل السد دون قيود أو التزامات.
ورغم ما ترتب على ذلك من أخطر تهديد استراتيجي لمصر منذ عقود، لم يحرك السيسي ولا جيشه، الذي انشغل بالبزنس والاستثمار، ساكناً لحماية شريان الحياة الوحيد للمصريين؛ بل ترك لإثيوبيا عشر سنوات كاملة أنجزت خلالها السد بمراحله كافة، تحت رعاية مالية إماراتية بأوامر من الكيان الصهيوني، الذي يسعى للتحكم في مياه النيل وتوجيهها مستقبلاً بما يخدم مصالحه الإقليمية.
ارتباك رسمي وتداعيات خطيرة
أحدثت التصريفات المفاجئة التي أعقبت فتح بوابات السد فجأة، بعد انتهاء موسم الفيضانات، حالة ارتباك واسعة داخل الأجهزة المصرية المعنية بالري والكهرباء والطاقة، مع تدفق فيضان ضخم نحو الأراضي السودانية ثم داخل مصر، مهدداً السدود والمنشآت على مجرى النيل من أسوان حتى الدلتا.
ووفق بيانات وزارة الموارد المائية، بلغت إيرادات النيل الأزرق في سبتمبر الماضي 50 مليار متر مكعب، وهو أعلى من المتوسط التاريخي، ما وضع السد العالي أمام اختبار صعب في إدارة التخزين والتصريف، رغم سعته البالغة 160 مليار متر مكعب.
“قنبلة مائية” تهدد الجميع
يرى خبراء مصريون أن ما حدث يعكس فشل البنية التحتية لسد النهضة، وعدم قدرة إثيوبيا على التحكم الآمن في كميات المياه المخزنة، التي تجاوزت 74 مليار متر مكعب، جُمعت خلال خمس سنوات من دون أي تنسيق أو اتفاق ملزم مع دولتي المصب.
ويحذر أستاذ الجيولوجيا المائية بجامعة القاهرة عباس شراقي من احتمالات كارثية في حال تعرض السد لانهيار أو زلازل أو فيضانات، مؤكداً أن غياب اتفاق ملزم يجعل إدارة النيل رهينة القرار الإثيوبي المنفرد، بما يحول السد إلى أداة ضغط سياسي خطيرة على مصر.
السودان على “الإنذار الأحمر” ومصر في مرمى الخطر
أعلنت السلطات السودانية حالة الإنذار الأحمر بعد الارتفاع غير المسبوق في منسوب مياه النيلين الأزرق والأبيض، مع تدفق الفيضان عبر الحدود، ما هدد سدي مروى والروصيرص والبنية التحتية المحيطة.
وفي مصر، فتحت وزارة الري بوابات مفيض توشكى والسد العالي لاحتواء الكميات المتدفقة، وسط مخاوف من غرق الجزر النيلية والأراضي الزراعية في مناطق متعددة من الصعيد والدلتا.
من “اتفاق المبادئ” إلى “الانهيار الكهربائي”
منذ توقيعه اتفاق المبادئ في مارس 2015، قدم السيسي أغلى تنازل استراتيجي في تاريخ مصر الحديث، إذ منح أديس أبابا الحق القانوني والسياسي لاستكمال السد بتمويل خارجي دون قيود، وهو ما استغلته الإمارات بتمويل المشروع عبر شركات واجهة لصالح التحالف الإثيوبي – الصهيوني.
واليوم، وبعد عقد كامل، يواجه السد إخفاقاً فنياً ذريعاً. فبحسب الخبير مجدي قرقر، فشلت التوربينات الفرنسية والإيطالية في توليد الكهرباء بالكفاءة المطلوبة، بسبب مشاكل فنية وتشققات ظهرت منذ 2024، مع عدم اكتمال شبكات النقل الكهربائي في إثيوبيا، ما اضطرها إلى فتح بوابات التصريف لتفريغ الضغط المائي الهائل خلف السد.
وأكد قرقر أن هذا الفشل دفع الشركات الأجنبية للتكتم على العيوب، خشية الفضيحة التقنية التي تهدد سمعتها في السوق الأفريقية، في وقت تستغل فيه الشركات الصينية والألمانية الموقف لصالحها.
تحذيرات من مستقبل أكثر ظلمة
من جانبه، حذر وزير الري الأسبق محمد نصر علام من أن تصريفات السد الأخيرة تجاوزت 700 مليون متر مكعب يوميًا، أي أكثر من ضعف المعدلات الطبيعية، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للسودان ومصر، وقد يتسبب في أضرار جسيمة للمنشآت المائية والزراعية على طول النهر.
وفي تقرير حديث، نبهت مؤسسة "فيتش سوليوشنز" إلى أن استمرار هذه الأزمة سيؤدي إلى تراجع إنتاجية المحاصيل المصرية كالقمح والذرة والأرز، وزيادة الاعتماد على الاستيراد في ظل شح مائي متصاعد، ما يضاعف الضغوط الاقتصادية على بلد يعيش أكثر من 100 مليون نسمة على شريان مائي واحد.
البيانات الباهتة
بعد عشر سنوات من توقيع السيسي على اتفاق المبادئ، تحولت مصر من دولة صاحبة حق تاريخي في مياه النيل إلى طرف عاجز أمام ابتزاز إثيوبي – إماراتي – صهيوني، فيما انكشف وهم “العبقرية العسكرية” أمام كارثة مائية صُنعت بقرار سياسي خاضع للإملاءات الخارجية.
اليوم، لم يعد في يد النظام سوى البيانات الباهتة ومحاولات ترقيع الفشل، بينما تدفع مصر ثمن التفريط في النيل بالغلاء، والجفاف، والتهديد الوجودي المستمر.