كأن المشهد لا يحتاج إلى مزيد من السخرية: رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، الذي وقف ذات يوم أمام العالم يقسم بالله في مؤتمر صحفي أنه لن يضر مصر بنقطة ماء واحدة، أصبح اليوم – عبر وزارة خارجيته – يوبّخ القاهرة ويتّهمها بعقلية استعمارية، بينما سدّ النهضة يقف شامخًا على الأرض كأمر واقع لا يقبل الإنكار.
عشر سنوات كاملة مرّت على توقيع المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي اتفاق المبادئ في 2015، الاتفاق الذي منح إثيوبيا – عمليًا – الغطاء السياسي والشرعية الدولية لتمويل وبناء السد، قبل أن تستيقظ مصر على حقيقة مرة: المشروع اكتمل، والتخزين تم، والضغط الإثيوبي انتقل من مرحلة المراوغة إلى مرحلة السخرية العلنية.
بيان إثيوبي بلهجة الوصاية… ومصر في قفص الاتهام
وزارة الخارجية الإثيوبية، وفي بيان شديد اللهجة، اتهمت الحكومة المصرية بتبنّي خطاب “تصعيدي وعدائي”، معتبرة أن القاهرة فشلت في التكيف مع “حقائق القرن الحادي والعشرين”، وأنها لا تزال أسيرة “عقلية استعمارية” تتعامل مع نهر النيل كأنه ملكية خاصة.
ولم تكتفِ أديس أبابا بذلك، بل اتهمت مصر بإدارة حملات لزعزعة الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ووصفت ما تعتبرها سياسات القاهرة بأنها محاولة لصناعة “دول تابعة وضعيفة” تخدم أجندتها الإقليمية، مؤكدة أن هذه الأساليب “لا ترهب إثيوبيا”، بل تعكس – حسب تعبير البيان – فشلًا قياديًا واضحًا.
من “عدم الإضرار” إلى “الاستخدام الكامل”… لعبة انتهت
الخارجية الإثيوبية جددت تأكيد “حقها الكامل” في استخدام مياه النيل الأزرق وفق مبدأ “الاستخدام العادل والمعقول”، دون الحاجة – كما قالت صراحة – إلى إذن من أحد، معتبرة أن سد النهضة مشروع سيادي أفريقي للاعتماد على الذات، لا مشروعًا تفاوضيًا خاضعًا لاعتراضات القاهرة.
هكذا، وبكامل البرود السياسي، تُغلق إثيوبيا آخر نوافذ المناورة، وتُسدل الستار على سنوات طويلة من مسرحية التفاوض التي لم تُثمر سوى بيانات دبلوماسية خاوية، بينما كانت التوربينات تُركّب، والبحيرة تُملأ، والواقع يُفرض.
السيسي… من “الأمان الإلهي” إلى الصفعة السياسية
البيان الإثيوبي يأتي كصفعة مباشرة لعبد الفتاح السيسي، الذي خرج قبل سنوات ليقول بثقة مفرطة:
“محدش هيقدر يقرب نقطة مياه من مصر”.
اليوم، لا أحد يقترب… لكن أحدًا لا يستأذن أيضًا.
فمنذ توقيع اتفاق المبادئ، دفن النظام رأسه في الرمال، وتحوّل ملف النيل من ورقة أمن قومي إلى عبء ثقيل لا يملك أدوات المواجهة فيه، بعد أن قيّد نفسه قانونيًا وسياسيًا، وفرّغ أوراق الضغط واحدة تلو الأخرى، حتى صار موقفه لا يتجاوز خانة الاحتجاج اللفظي.
من المستفيد؟ ومن دفع الثمن؟
في الشارع المصري، يتردد سؤال أبسط من كل البيانات الدبلوماسية:
من الذي دفع ثمن هذه “المرونة السياسية”؟
المواطن وحده من يدفع — قلقًا على مياه الشرب، والزراعة، والأمن الغذائي، بينما تُفتح البلاد للاستثمارات والصفقات الإقليمية، ويُعاد رسم خرائط النفوذ في المنطقة على حساب المصالح المصرية.
مجرد “نزاع مائي”
لم تعد أزمة سد النهضة مجرد “نزاع مائي”، بل تحولت إلى مرآة كاملة لفشل إدارة الدولة، سياسيًا واستراتيجيًا. إثيوبيا تجاوزت مرحلة التطمينات، وانتقلت إلى فرض الأمر الواقع بلا أقنعة، بينما يقف النظام المصري محاصرًا بين تنازلات الماضي وعجز الحاضر ومخاطر المستقبل.
سد النهضة لم يعد مشروعًا قيد التفاوض، بل أصبح نصبًا تذكاريًا لاتفاق ارتُكب في لحظة غياب للرؤية… ودُفع ثمنه من أمن مصر المائي.