تعلَّم معظم الشباب الذين احتشدوا في ميدان التحرير، عشية ثورة 25 يناير 2011، من الأديب والكاتب الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق كيف يبغضون الظلم بقدر عشقهم لأبطال روايته، لا يختلف وهج ثورة يناير عن وهج أسلوبه السهل الممتنع الساخر الدسم في الوقت ذاته، هكذا كانت الثورة في أيام المخاض الأولى، تسربت إلى أرواح عشاق الحرية والكرامة، كما تسربت شخوص ونصوص روايات الطبيب حتى اليوم، قطع الانقلاب طريق الثورة كما قطع الموت كتابات كانت تتسرب إلى عقول المصريين بسلاسة، ولا تُقرأ فقط.
أطلق الشباب الذين نزل معظمهم ضد نظام المخلوع حسني مبارك، على الكاتب أحمد خالد توفيق لقب “عرّاب الجيل”، فهو بحق كاتب الشباب الأول في الفترة التي سبقت الثورة، ورسولهم من عالم الخيال والرعب. في العاشر من يونيو عام 1962 ولد أحمد خالد توفيق وانتسب إلى كلية الطب جامعة طنطا، وتخرج فيها وحصل على درجة الدكتوراه، وكانت بدايته مع المؤسسة العربية الحديثة حيث سلسلة “ما وراء الطبيعة”.
يقول الرجل، في لقاء مُتلفز، إنّه يكتب للشباب فقط وأنهم ينعتونه “عمو أحمد”، وأن قلمه يستشعر دائمًا مسئوليته فيما يكتب لهذه الفئة الناشئة التي ليس أسهل عليها من أن تتأثر بفكر أو بمصطلح أو بقصة تُساق إليها، وعندما أرسل له أحد قُرّائه يقول إن صديقه أصبح يُدخن حبًا في رفعت إسماعيل، قال الكاتب إنه أوقف استخدام كل الكلمات التي تصف التدخين وتؤدي لوجوده، هذا تصرف نبيل أن تخطئ فتدرك الخطأ وتعتذر.

مع أم ضد الثورة؟
قبل ثورة 25 يناير بأكثر من عشرة أعوام، انجذب الطبيب أحمد توفيق للأدب والرواية، وراح يغوص في الكتابة للشباب المتعطشين لمواضيع بعيدة عن السياسة وهمومها، حيث اختار عالم الرعب والخيال العلمي والفانتازيا، وكل ما يحلق بالقارئ بعيدا عن واقعه المؤلم.
كتب العرّاب الذي لم يخف اتجاهه الناصري في جريدة الدستور، التي حُسبت على المعارضة لنظام المخلوع مبارك، وكان قلمه لا يملك الجرأة الكافية، فحاول أن تكون له رسالة بين السطور، إلا أنه سرعان ما كان يتراجع عنها في نهاية المقال بعبارة: “لن أتحدث أكثر من ذلك لأن بلاط السجن بارد جدًا في هذا الوقت من العام، كما تعلمون”!.
وبعد ثورة 25 يناير كتب أحمد خالد توفيق قصة “أطفال بلا مناسبة”، المنشورة في موقع “بص وطل” في 17 من مايو عام 2012، والتي أعلن من خلالها عن تأييده لحمدين صباحي، فقد ختم القصة قائلًا: “بصراحة لو كنت مكان الحسناء السمراء لاخترت النسر، أنا أثق بالنسور وأحبها، لقد رأيت هذا النسر الشامخ مرارًا وأعرف أنه الاختيار الصحيح على الأرجح، أما عن الحسناء فقد اتخذت قرارها قبل أن تعود لدارها، وقبل أن تخرج الذئاب المتعطشة للدم، اختارت البرادعي، وتوتة توتة فرغت الحدوتة، عزيزي القارئ.. أي تشابه تكون قد لاحظته بين القصة السابقة وبعض الرموز الانتخابية لبعض مرشحي الرئاسة هو تشابه مقصود.” والذي اعترف بخطئه فيه بعد ذلك وانتقد حمدين صباحي نفسه.
اعتذر عن تأييد المجزرة!
غير أن “توفيق” كان له رأي في اعتصام رابعة، وكتب مقالًا بعنوان “عزاء بالجملة”، المنشور في جريدة التحرير في 19 من أغسطس عام 2013 بعد وقوع المجزرة، قال فيه: “30 يونيو ثورة ولم تكن انقلابا”، وفي المقال انتقد المجزرة ولكنه اقترح أنه كان بوسع الداخلية أن تحاصر الاعتصام بإحكام ولا تسمح بدخول الطعام والماء والوقود، وأجزم أن الاعتصام لم يكن سلميًا بالكامل، إلا إنه اعترف بخطأ الشرطة في ارتكاب المجزرة على هذا النحو البربري البشع.
وفي نهاية المقال انحاز “توفيق” للشرطة والجيش، وقال نصًا: “ومن لم يؤرقه مشهد ضباط وجنود كرداسة المذبوحين لا يستحق لقب “بشر” أصلا. في النهاية هم لم يكونوا يطلقون الرصاص على المعتصمين عندما تم ذبحهم. كانوا يؤدون واجبهم.”!.
إلا أن توفيق وبعد مرور ثلاثة أعوام اعتذر يوم 17 من أغسطس عام 2016، عن مقاله مع موقع “اليوم الجديد”، حدادًا على ضحايا المجزرة، فهل استيقظ العرّاب من غفلته كباقي الشعب حديثًا؟ يبقى لأحمد خالد توفيق ما له وما عليه كأي كاتب، لكن يموت المرء ويبقى أثره، والكلمات التي تكتب لا تمحى والتاريخ لا ينسى، فعلينا أن نعتبر.
الهروب من السياسة
رغم ثورية قلمه كان “توفيق” يخشى من السجن والاعتقال والزنازين، ذكر ذلك صريحا في أحد مقالاته وقبل قصص الرعب والخيال، بدأ أحمد توفيق كتابة القصة القصيرة التي انتهج فيها تيار “الواقعية الاشتراكية”، متأثرا كما قال هو نفسه في تصريح صحفي بكتابات مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف.
تميز أحمد توفيق بأسلوبه السردي السهل، وهو ما عرّضه للانتقاد، لكنه رد بالقول “إن الكتابة لا يجب أن تعذب القارئ أو تشعره بالهزيمة أو الفشل”، ويرى أن “الكتابة علاج لاضطرابات الكاتب النفسية. والكاتب الحق- والناجح أيضا- هو الذي يكتب لنفسه أولا، لأنه لو كتب من أجل القراء أو الجماهير فسيدخل في دائرة الافتعال والابتذال”، وذلك كما جاء في حوار سابق له في برنامج تلفزيوني مصري.
استطاع الكاتب المصري أن يقدم نفسه للقراء من خلال رواية “ما وراء الطبيعة” التي نشرها عام 1993، وهي عبارة عن سلسلة من الخيال العلمي محورها ذكريات شخصية خيالية لطبيب أمراض دم مصري متقاعد اسمه رفعت إسماعيل، حول سلسلة حوادث خارقة للطبيعة تعرض لها في حياته.
يوتوبيا العسكر!
كتب أيضا الرواية الاجتماعية “يوتوبيا” الصادرة عام 2008، والتي تدور أحداثها في عام 2023، ويلخص فيها حال الأوضاع في مصر، حيث طبقة بالغة الثراء والرفاهية وأخرى تعاني الفقر المدقع، وكتب رواية “السنجة” التي أصدرها بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك عام 2011، فخاض في المناطق المنسية في بلاده، وفي عالم البلطجية والعشوائيات.
كما خاض في عوالم المستقبل والخيال في رواية “مثل إيكاروس” الصادرة عام 2015، وهي الرواية التي فازت بجائزة أفضل رواية بمعرض الشارقة للكتاب 2016، وفي رواية “ممر الفئران” الصادرة عام 2016، عمل الكاتب إسقاطا على جوانب من قضايا الحكم والسلطة في الكثير من الدول النامية، وعلى الحالة التي يحتكر فيها قلة من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ خيرات بلادهم مع تقديم الأغلبية العظمى من المواطنين لقمة سائغة للجهل والمرض والخوف، إلا أن المؤلف يطرح أفكاره ويصيغ تساؤلاته في قالب غير منفر.
وتوفي أمس الإثنين، الكاتب والروائي الدكتور أحمد خالد توفيق داخل إحدى المستشفيات عن عمر يناهز 55 عاماً، إثر أزمة صحية مفاجئة، وكان الراحل كتب كلمات عن الموت قال فيها: “أنا أخشى الموت كثيرًا ولست من هؤلاء المدّعين الذين يرددون في فخر طفولي نحن لا نهاب الموت كيف لا أهاب الموت وأنا غير مستعد لمواجهة خالقي”.