رغم تصاعد الانتقادات الحقوقية المحلية والدولية المطالِبة بإنهاء مأساة الحبس الاحتياطي السياسي في مصر، يصرّ نظام عبد الفتاح السيسي على التمسك بهذه الأداة التي تحولت من إجراء قانوني استثنائي إلى ركيزة أساسية في منظومة القمع والاستبداد.
وبينما تطالب منظمات حقوقية بإطلاق سراح الآلاف من المعتقلين، يأتي المشهد الأكثر فجاجة في أن يُكافأ النظام المصري — المتهم بانتهاك كل مبادئ العدالة — بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وكأنّ المجتمع الدولي يبارك الجريمة بدلًا من إدانتها.
الحبس الاحتياطي.. العقوبة بلا حكم
لم يعد الحبس الاحتياطي في مصر مجرد وسيلة لضمان استمرار التحقيقات كما نصّ عليه القانون، بل أصبح سيفًا مسلطًا على رقاب المعارضين، يُستخدم لمعاقبة كل صوت حر أو رأي مخالف.
فرغم الإفراجات الأخيرة التي شملت عشرات المحبوسين احتياطيًا، من نشطاء ومشجعين وحقوقيين، إلا أن الواقع يؤكد أن تلك الإفراجات لا تمثل سوى محاولات تجميلية لنظام فقد شرعيته الحقوقية والإنسانية.
فقد أخلت نيابة أمن الدولة سبيل الشاب عبد الجواد محمد عبد الجواد بعد أشهر من اعتقاله لمجرد رفعه علم فلسطين فوق لوحة إعلانات تضامنًا مع غزة، بينما ما زال العشرات غيره خلف القضبان بنفس التهمة: "التعاطف الإنساني".
كما كشفت "الشبكة المصرية لحقوق الإنسان" عن احتجاز 27 من مشجعي النادي الأهلي على ذمة قضايا مختلفة فقط لأنهم عبروا عن انتمائهم الرياضي، بينما يُفرج عن مشجعي نادٍ آخر في تمييز فاضح، يعكس طبيعة العدالة الانتقائية التي تحكمها الأجهزة الأمنية.
سنوات في السجن بلا تهمة.. و”تدوير” بلا نهاية
يستمر آلاف المصريين في الحبس الاحتياطي لسنوات تتجاوز الحد القانوني، كما في حالة محمد شعلان عنتر، الذي قضى أكثر من أربع سنوات في السجن ضمن "قضية صيادي برج مغيزل"، رغم أن محاميه أثبت أنه كان يعيش في إيطاليا وقت توجيه الاتهامات إليه!
هذه الوقائع تكشف بوضوح أن الهدف لم يكن التحقيق أو العدالة، بل الانتقام السياسي والإذلال الممنهج.
وتبتكر النيابة والأجهزة الأمنية حيلة تُعرف بـ"التدوير"، حيث يتم إعادة المتهم إلى قضية جديدة بالتهم ذاتها بمجرد انتهاء مدة حبسه في القضية السابقة، وهو ما حدث مع المحامية الحقوقية هدى عبد المنعم، التي تجاوزت سبع سنوات من الحبس الاحتياطي في ظروف صحية مأساوية، بينها أزمات قلبية وفشل كلوي وإهمال طبي متعمد، دون أي مبرر قانوني لاستمرار احتجازها.
قانون فقد روحه.. وعدالة غائبة
تؤكد المنظمات الحقوقية أن النظام يستخدم النيابة العامة كذراع من أذرع الأمن الوطني، وليست كسلطة تحقيق مستقلة.
فبدلًا من أن تفترض النيابة براءة المتهم حتى تثبت إدانته، تصدر بيانات تتحدث عن "إعادة تأهيل المفرج عنهم"، وكأنهم مجرمون، لا ضحايا قهر سياسي.
المنظمات — ومن بينها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية — طالبت بمراجعة كل قضايا أمن الدولة التي تُستخدم ذريعة لحبس الآلاف دون أدلة أو أحراز، ودون أي نية حقيقية لإجراء محاكمات عادلة.
إنها دولة تُشرعن القهر باسم القانون، وتحوّل القضاء إلى أداة لإرهاب المجتمع.
المفارقة الدولية.. الجلاد في مجلس حقوق الإنسان
في واحدة من أكثر المفارقات فجاجة في التاريخ الحديث، تم انتخاب مصر مؤخرًا لعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، رغم سجلها الأسود في القتل خارج القانون، والإخفاء القسري، والتعذيب الممنهج، والحبس الاحتياطي غير المحدود.
هذه العضوية لا تعكس سوى انهيار المنظومة الدولية التي تكافئ الجلادين وتمنحهم غطاءً شرعيًا لمواصلة جرائمهم، تحت شعار “الحوار” و“الإصلاح التدريجي”.
فبينما تغص السجون المصرية بآلاف الصحفيين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، تواصل الأمم المتحدة غض الطرف، وكأنها شريكة بالصمت في هذه الانتهاكات.
دولة الخوف لا تعرف الإصلاح
تمسك السيسي بالحبس الاحتياطي ليس مجرد عناد سياسي، بل هو جوهر منظومة حكمه القمعية.
فالإفراجات المحدودة ما هي إلا صمامات ضغط لتفريغ الغضب الشعبي أو لتحسين الصورة أمام الخارج، بينما يظل الأصل هو القمع والاعتقال والتهديد.
وفي زمن يُكافأ فيه القتلة بعضوية مجالس حقوق الإنسان، يبقى السؤال الموجع:
هل يمكن لبلد يُدار بالحديد والنار أن يعرف العدالة يومًا؟
أم أن مصر باتت رسميًا سجناً كبيراً، يحكمه من انقلب على إرادة الناس، ويُصفّق له العالم؟