معركة طويلة من تغييب الوعي مارسها العسكر ضد الشعب المصري لصالح كيان العدو الصهيوني، أسفرت عن خيانات لم تمحَ إلي هذه اللحظة، واليوم تحل الذكرى الثامنة والثلاثون لتأسيس سفارة الكيان الصهيوني في قلب القاهرة وتحديدًا في محافظة الجيزة، بعد توقيع الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة الاستسلام بعد 16 شهرًا من زيارته تل أبيب عام 1977.
ولأول مرة منذ 38 عام رفرف العلم الصهيوني في سماء القاهرة فوق سفارة العدو التي تم تدشينها، الأمر الذي رفضته جميع الدول العربية في ذلك الوقت ووجهت لمصر اتهامات بأنها كانت بوابة العدو الصهيوني لاختراق جدار الرفض العربي والإسلامي.
وترتب على هذه الاتفاقية وافتتاح سفارة العدو منح مصر الكيان الصهيوني موافقة علنية علي احتلال الأراضي العربية “الجولان وفلسطين” واعتراف منها بـ”إسرائيل” كدولة شرعية، وتعد المعاهدة من ذيول حرب أكتوبر، حيث لم تكن الحرب 18 يومًا فقط، بل استمر كيان العدو في تضييق الخناق علي مصر، مشترطًا عودة سيناء منقوصة السيادة، واليوم يستعيدها بموجب اتفاق القرن الذي وقعه السفيه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي.
بداية التطبيع
مكن رفع علم العدو الصهيوني من نشر التطبيع بالمنطقة، كما أنه ساعد في إبرام الاتفاقيات الاقتصادية التي من شأنها فتح سوق له بالشرق الأوسط، فتكون مصر بوابة لها باعتبارها أول معترف عربي بوجودها، في ذلك التاريخ المشئوم الذي لن يسقط من الذاكرة العربية أبد الدهر.
وعن الجانب الصهيوني كان رفع العلم في سماء القاهرة حدث له شأنه، فبدأ العدو في نشر الأكاذيب، كما وصفت احدي الإذاعات يوم افتتاح السفارة في القاهرة بأنه يوم عيدا لنا ولهم، فهو لم يكن عيدا لنا بكل تأكيد، فلم يرض الشعب المصري يوما عن التطبيع، أو عن تلك السفارة على أراضيه حيث شوهد يوم الافتتاح فتيات مصريات يصرخن ويبكين من نوافذ البنيات المطلة على السفارة المشئومة.
بل قام أحد الشباب ويدعى “سعد حلاوة”، في يوم استقبال أول سفير للعدو الصهيوني، باحتجاز اثنين من موظفي الوحدة المحلية بمحافظة القليوبية، وهدد بقتلهما ما لم يتم طرد السفير الصهيوني الياهو بن اليسار، ولكن العسكر حسموا أمرهم فأمر السادات وزير الداخلية النبوي إسماعيل بقتل “حلاوة”، وعدم تعكير صفو المناسبة فتم قتله بواسطة قنّاص، وكيلت له الاتهامات بالإرهاب، ليكون أول شهيد رافض للتطبيع الصهيوني في مصر.
وفي 18 فبراير عام 1980، أعلنت سلطات العسكر رسميًا إقامة سفارة العدو الصهيوني بالقاهرة، وتم تبادل السفراء، وخلال الشهر ذاته، ألغى البرلمان المصري قوانين وتشريعات كانت تقضي بمقاطعة العدو الصهيوني وفي مارس 1980، تم تدشين رحلات جوية منتظمة ونشطت العلاقات الاقتصادية، رغم الغضب الشعبي الساكن داخل الشارع.
وبدأت مصر بإمداد الصهاينة بالغاز الطبيعي، في ظل معارضة شديدة من الشارع وجدل كبير في أنحاء متفرقة من الوطن العربي وإدانات واسعة، وصلت إلى حد وصفها بأنها طعنة في قلب العروبة، وكان الشعور بالغضب قويًا بوجه خاص بين الفلسطينيين، وأعلن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، اعتراضه على اتفاقية كامب ديفيد بقوله “دعهم يوقعون ما يحلو لهم، فالسلام المزيف لن يدوم”.
ثورة يناير
ولسنوات طويلة، ظل العلم الصهيوني يرفرف فوق مبنى سفارة العدو بالجيزة، حتى قيام ثورة 25 يناير 2011، عندما اقتحم عددا كبيرا من المواطنين مقر السفارة في التاسع من سبتمبر من العام ذاته، أثناء تظاهرات جمعة «تصحيح المسار»، بعدما أقامت سلطات العسكر جدارا خراسانيا لتأمين السفارة، ما أغضب جموع المواطنين المشاركين في التظاهرات ودخلوا في اشتباكات حادة مع قوات الأمن، استشهد على إثرها 3 أشخاص لحقوا بالشهيد “سعد حلاوة”، بينما أصيب مئات آخرون.
وقتها، تم الإطاحة بالعلم الصهيوني، ورفع الشاب أحمد الشحات، العلم المصري بدلًا منه وألقوا بجميع الأوراق والمستندات الموجودة بمكاتب السفارة من الشرفة بالدور الـ19، إلى الشارع، وتصدرت صورة الشحات الصفحات الأولى من الصحف الصهيونية، وسط تكبيرات واحتفالات المواطنين فوق كوبري الجامعة، ونقلت صور له محمولا فوق الأعناق بعد نزوله من العمارة وهم يهتفون ببطلان اتفاقية السلام مع الصهاينة وطرد سفيرهم من القاهرة.
وأمام إصرار العسكر بالمضي قدماً في خدمة البلاط الصهيوني، أقام عدد كبير من المحامين أكثر من 7 دعاوى قضائية طالبوا فيها بقطع العلاقات مع تل أبيب وطرد السفير الصهيوني، وكان من بينها دعوى قضائية تقدم بها المحامي عبد المقتدر محمد حملت رقم 51033، طالب فيها بإغلاق سفارة العدو بمصر بعد الاعتداءات المسلحة على الجنود المصريين على الحدود المصرية-الفلسطينية المحتلة بالعريش، التي أدت إلى قتل عدد منهم.
تعاطف الانقلاب!
في المقابل، تحدت سلطات الانقلاب الغضب الشعبي وأعادت فتح سفارة العدو الصهيوني يوم التاسع من سبتمبر عام 2015 ورفع علم الاحتلال من جديد، بحضور مدير عام خارجية الاحتلال ونائب رئيس البروتوكول في خارجية الانقلاب والسفير الأمريكي لدى مصر وموظفي السفارة الصهيونية.
بينما كان موقف الرئيس المنتخب محمد مرسي واضحاً في الوقوف بقوة في وجه العدوان الصهيوني، وبدا واضحاً أن الرئيس المدني المنتخب من ميدان الثورة ليس كسابقيه من الحكام العسكريين، بل إن مصالح المصريين والعرب والمسلمين مقدمة لديه عن الاتفاقات المذلة التي ورط فيها العسكر المصريين، كان ذلك واضحاً في وقف العدوان الصهيوني الحربي على غزة، وإرسال رئيس الوزراء هشام قنديل إلى هناك، فقرأت إسرائيل الرسالة وبدأت بتحريك خليتها النائمة داخل الجيش المصري.
لم يتوقف الدعم الصهيوني للسفيه عبد الفتاح السيسي – رجل إسرائيل- بعد 30 يونيو حيث وحتى اليوم، والذي شهد محطات كبيرة كان أهمها بعد مذبحة رابعة العدوية التي دافع عنها الصهاينة بشدة، وفق ما كشفت صحيفة جورزاليم بوست وقتها، مروجة بأن إدانتها دوليا أو الاعتراف بها كمذبحة أو جريمة حرب من شأنها إضعاف موقف الجيش وتقوية موقف جماعة الإخوان المسلمين.
ذهب الصهاينة إلى أبعد من ذلك ودعوا العالم للتخلي عن المطالبة بالديمقراطية في مصر، والوقوف صفا واحدا حول مبدأ عدم سقوط الانقلاب، وكذلك الترويج لخطاب جديد أصبح منهجا في الدعاية الصهيونية للسفيه السيسي، مفاده أن أمن “إسرائيل” الذي يحققه السيسي أهم من الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، وهو نفس ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني السابق إيهود باراك في كلمته أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وفي حوارات تلفزيونية عدة داخل الولايات المتحدة من وجوب التنازل عن قيم الدفاع عن الحرية والديمقراطية بهدف حماية مصالحها.
وخلال أعوام الانقلاب الخمسة، كان الداعم الأكبر له خارجيا يتمثل في المنظمات والمؤسسات اليهودية والصهيونية حول العالم، حتى أنه خلال 20 شهرا فقط عقد خمسة اجتماعات مع الممثلين عن المنظمات اليهودية والصهيونية الأمريكية، وصار هؤلاء هم السند الوحيد له بعد إحجام أغلب الدوائر الأخرى عن مقابلته والحديث معه، بجانب لقاءات سرية وعلنية مع قيادات كيان الاحتلال، وربما كان ذلك الدعم هو المقابل لما أنجزه السفيه السيسي لـ”إسرائيل” في المقابل، أما عن أرباح الصهاينة من ذلك الاستثمار فيلخصه رئيس وزراء كيان العدو بعد توقيع صفقة بيع الغاز لمصر بقوله ” تل أبيب اليوم في عيد”!
