“نصف انتصار”.. هل ينجح الجيش في تبريد الثورة بالسودان؟

- ‎فيعربي ودولي

عرت رياح الربيع العربي ستائر الأكاذيب عن وجه العسكر، وكشفت أن الغرض من الجيش في كل بلد عربي مسته رياح الربيع هو حماية المصالح الأجنبية بالدرجة الأولى، والاتفاقيات المعقودة مع دول الاستعمار القديم، ثم تحوّل الأمر إلى عادة لدى الجيوش في التمسّك بالسلطة، وبدأت الجيوش بإخافة الشعوب العربية من مفهوم الدولة المدنية، الكفيلة بوضع حدّ لتطاول العسكر.

ولا يختلف الوضع في السودان عما جرى في مصر ما بين يناير 2011 و يونيو 2013 ، لم يخرج عسكر السودان نصرة للثورة، بل فقط لإثبات أحقيته التقليدية في التسلط والحكم والثورة، ما فعله الجيش السوداني يوم الخميس الماضي، في إطاحته عمر البشير، هو تكرار ما فعله المجلس العسكري في مصر مع المخلوع مبارك، فضلاً عن محاولات تجري الآن لكبح جماح الشارع المنتصر.

ومن الوارد كذلك أن يلتف الجيش على مطالب الجماهير، وقيامه بتهدئة الأمور في ظل وعود ومماطلة وتسويف، فيتم تمديد حالة الطوارئ حتى استقرار الأمور على تقبل الأمر الراهن وقبول المرشح الأوحد، قائد الجيش عوض بن عوف، أو أي وجه آخر من العسكر، فيتم تكرار مرحلة البشير عقودا أخرى.

الجيش ليس الحل

ورغم كثرة الانقلابات العسكرية في السودان إلا أنها لم تؤدِّ إلى تحقيق غايات الشعب، بل على العكس من ذلك، ازداد الفقر والتدهور الاقتصادي، واشتعلت الحروب في مختلف أرجاء السودان، انفصل جنوب السودان، وبات إقليم دارفور على شفا الانفصال هو الآخر، وكان الجيش شريكاً في كل تلك الأحوال الصعبة للسودانيين، فكيف يكون الجيش هو الحلّ في عام 2019؟

ويدرك الشارع السوداني أن المرحلة الانتقالية التي حدّدها الجيش، وهي عامان كاملان، ليست سوى محاولةٍ لتبريد الاحتجاجات، ثم العودة إلى ما كانت الأمور عليه، مع بعض التغييرات الثانوية لا الجذرية، وبين يونيو 1989 ويوم الخميس 11 إبريل 2019، 30 عاماً فاصلة بين انقلابين، الأول نفّذه عمر البشير وقاده إلى السلطة، والثاني أعلنه الجيش السوداني أطاح بموجبه البشير من الحكم، ليتكرر مشهد الانقلابات في السودان وتدخل البلاد مرحلة جديدة.

وفور إعلان الجيش بيان إطاحة نظام البشير، تعهّد المتظاهرون بمواصلة اعتصامهم رفضاً لحكم العسكر، كما رفضت قيادات بارزة في المعارضة الخطوة، ووصفوها بالانقلاب على احتجاجات الشارع، وجاء البيان العسكري الذي ألقاه النائب الأول للبشير ووزير الدفاع السوداني عوض بن عوف، مؤكداً فيه تنفيذ الجيش انقلاباً عسكرياً يحكم فيه قبضته على البلاد، ليبدل المشهد في الشارع السوداني الذي كان ينتظر منذ ساعات الصباح صدور بيان تنحّي البشير.

ومنذ بداية إنشائه بواسطة الاستعمار البريطاني (1898-1956) وحتى اليوم، لم يكن الجيش السوداني بعيداً عن التدخل في المشهد السياسي ومحاولات الانقلاب المتتالية، وذلك في بلد تعدّدت فيه الحروب والنزاعات الداخلية منذ استقلاله، وفي تعليق لافت قاله أحد الناشطين في السودان، “إما النصر وإما مصر”!

وحذر من مصير جارتهم الشمالية، مصر التي نجحت ثورتها في البداية بالإطاحة بالمخلوع مبارك، الذي كان من أبناء الجيش، وانتشرت يومها شعارات مؤيدة للمؤسسة العسكرية، في ميدان التحرير، مثل “الجيش والشعب أيد واحدة” لكن هذا الجيش وهذه المؤسسة العسكرية العميقة، سرعان ما استعادت أنفاسها وعادت للسلطة، مرتكبة مجازر بحق الثوار الذين هتفوا لها، وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها أكبر جريمة قتل جماعي لمتظاهرين في يوم واحد، فلم تكن “يد الجيش” متعاونة مع الشعب، كما شعار ساحة التحرير الشهير، بل يد ملطخة بالدماء.

البطة في السودان!

جون ماكين السناتور الأمريكي البارز الذي رحل العام الفائت، جاء يومها للقاهرة، ووصف ما حدث بالانقلاب، وقال إن الرئيس الذي انتخب، يقبع اليوم في السجن، والجيش هو من يحكم، فسأله بعض صحفيي جنرال إسرائيل السفيه السيسي عن سبب تسميته لما حصل بالانقلاب، مدللين بالمظاهرات المدبرة التي خرجت مؤيدة للانقلاب، باعتبارها ثورة جديدة لا انقلابا، فأجابهم يومها ماكين :”إذا كانت تمشي كالبطة وتصدر صوت كالبطة فهي بطة”.

وهكذا حال السودان اليوم، يأتي وزير الدفاع في النظام ليعلن اقتلاع النظام وتنصيب مجلس عسكري يحكم البلاد لعامين، تماما كما حصل في مصر، قبل أن تتجه البلاد نحو انتخابات مسرحية يعاد فيها وضع رئيس المجلس العسكري على عرش مصر، فالسلوك هذا يوحي بأن العملية هذه في السودان تعرج كالبطة وصوتها كالبطة.

المفارقة أن وزير الدفاع السوداني، خريج الكلية الحربية في مصر، وهو أيضا وللمفارقة كان رئيسا للاستخبارات العسكرية السودانية سابقا، كما السفيه السيسي، وخلال التظاهرات الشعبية في ميدان التحرير في القاهرة، تحدث إعلام الانقلاب كثيرا عن أن الجيش قام بدور في حماية المتظاهرين في الميدان.

وتفشت شعارات التأييد للجيش والمؤسسة العسكرية، ورغم أن حوادث كثيرة وقعت في ميدان التحرير كانت تشي بغير ذلك، من مناوشات ومشاحنات بين قادة الثوار الميدانيين وضباط الجيش، وتعامل الجيش الفظ والقمعي مع الصحفيين الذين جاءوا لتغطية الثورة، فمن احتجاز الصحفيين وكسر أدواتهم، إلى قنص المتظاهرين في الرأس.

لم يكن ذلك سوى بروفة صغيرة لما سيحدث بعد ذلك في ميدان رابعة وجامعة القاهرة، عندما قامت قوات خاصة بقمع المحتجين ضد انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ونفذت المؤسسة العسكرية بأوامر السفيه السيسي مجزرة بالمتظاهرين ليقتلوا نحو 1500 متظاهر سلمي خلال 48 ساعة.

لقد تبين أن الجيش بكبار ضباطه، كان المؤسسة التي ظلت تحمي بذور الانقلاب على الثورة، وما أن حانت الفرصة، حتى استعاد الجيش السلطة، وأنهى الحياة السياسية الديمقراطية تماما، وقمع كل أوجه الحريات الإعلامية، بدءا بالمظاهرات المعارضة، وصولا لإعلاميين وفنانين أيدوا الانقلاب في بدايته وانتقدوه اليوم، وإن كانوا مناوئين للإخوان المسلمين مثل باسم يوسف وعمرو واكد وخالد أبو النجا.