مفلسون يستعينون بمفلس!

- ‎فيمقالات

فى الذكرى الخمسين لرحيله، استدعى العسكر صورة أبيهم الروحى «ناصر»؛ لتحسين صورتهم الشائهة لدى الجماهير، فكلما مررت على وسيلة من وسائل إعلامهم سمعت سيرة «البطل» الذى لم يتكرر، والثناء العطر على روحه «الطاهرة»، وتعديد إنجازاته، وفتوحاته، ولم يَفُتْهُمْ -بالطبع- ماذا فعل هذا «المغوار» مع «الجماعة الإرهابية!».

وليس غريبًا على تلك العقلية التى لا زالت تسير على «كتالوج الستينيات» ونحن فى الألفية الثالثة أن تفعل ذلك؛ ما أوقعهم فى خطأ زاد من نقمة الناس عليهم، وانظر إن شئت الردود على تلك المواد المتلفزة أو المكتوبة والتى جعلت من هذا «البطل» مادة للتندر والسخرية.

لقد كانت ثورة يناير محطة تاريخية من محطات الوعى لدى المصريين، كشفوا عقبها زيف هذه «الأسطورة» التى بالغ أتباعها والمستفيدون من بقائها فى تمجيدها حتى ألحقوا صاحبها بمصافِّ الرسل والأنبياء.. يحكى زميلٌ أنه ذهب إلى النقابة العامة للمحامين، فى منتصف التسعينيات، لتغطية مؤتمر نظمه الناصريون فسمع متحدثة من المنصة تقول: «إن ناصر لم يمت، بل رفعه الله إليه، وإنى أشعر بروحه الآن تحوم حولنا، وتبارك جمعنا، وتهنئنا على ما صرنا إليه»، ولما مات «خالد الذكر!» قال فيه شاعرهم الكبير: «فقدناك يا آخر الأنبياء»!

عقب الثورة ظهرت حقيقة «مسيلمة» وانفضح دجله، وانكشف القناع عن خديعة كبرى تورط فيها شعب المحروسة، وكان التزوير من الدقة حتى خلط الناس بين الحق والباطل وحتى استبدلوا فرعون بموسى، وقد جاءت الثورة فى توقيت انكسر فيه احتكار الإعلام، وغدت المعلومة متاحة للجميع بعيدًا عن رقابة وحجب السلطات، وما كان سرًّا بالأمس صار معلومًا اليوم، بل أصبح الجميع إعلاميين يشاركون فى صنع المعلومة كما يشاركون فى ترويجها. من ثم أُعيد النظر فى التاريخ الذى اتضح تزويره بشكل فج، والعبث بأحداثه حتى صار الشيطان نوحًا أو إبراهيم.

هذا «الركن المهيب» الذى يفخر به العسكر الآن ويقولون إنه «واحد مننا» كان رأسًا فى الكذب، كان يتحراه، مستغلًا آلة إعلامية ليس لها معارض حتى حول هزائمه -التى كانت بالجملة- إلى انتصارات، وحتى بدا فى أعين الناس متواضعًا زاهدًا وهو قمة الكبر وأس الفساد. ولقد ردَّ المصريون على بنيه الذين أُخرجوا فى الأيام الماضية لذكر فرائد أبيهم «غاندى مصر!» فأوسعوهم سخرية، وذكّروهم بما كان يدّعيه أبوهم وأتباعه من تقشف وبساطة وما يحوزونه هم الآن من مليارات وأطيان.

«ناصر» هو مؤسس الاستبداد فى مصر، وأستاذ القمع، لم يترك نظرية من نظريات البطش بالشعوب والتى كانت رائجة فى وقته إلا طبقها على المصريين، خصوصًا الموحدين؛ لأنه كان كارهًا للدين، فتفوق بذلك على أساتذته السوفييت والفاشيين والنازيين. لم يحتمل الديمقراطية يومًا واحدًا عقب انقضاضه على السلطة، فلم يزل ينازل الأحزاب السياسية، ولم يكن اتضح موقعه السلطوى بعدُ، حتى حلها جميعًا بعد ستة أشهر من الانقلاب (17 يناير 1953)، وأنشأ بعدها حزبًا وحيدًا شموليًّا تابعًا له أسماه «هيئة التحرير». وبعدما فرغ من السياسيين سعى لإفساد الدين؛ بإفساد العلماء، فانتزع من بعض المتهتكين الفتاوى التى تكفِّر خصومه السياسيين، وهناك حوادث لا يتسع المقام لذكرها، نذكر منها قيام «جماعة كبار العلماء»، وكان على رأسها الشيخ عبد الرحمن تاج، بإصدار بيان فى (17 نوفمبر 1954) يعتبر فيه جماعة الإخوان المسلمين «عصابة منحرفة تمثل حربًا على الإسلام»!

وهذا المفلس هو من أجهض العدالة، واعتدى على القضاة، وجعل مصائر المصريين فى يده، يقتل من يشاء ويبقى من يشاء، وقد بلغ ذلك الجبروت أقصاه عندما وضع قانونًا فى (24 مارس 1964) منح الحكومة بمقتضاه سلطة اعتقال الأشخاص بسبب الاتهامات السياسية، ويحاكم هؤلاء الأشخاص بواسطة محاكم تتشكل من أعضاء يعينهم هو بصفة استثنائية؛ ما جعلها محاكم صورية ليس لسلطتها أى حدود.

ولن أحدثك عن قمعه ومظالمه التى علم بها الحيوان الأعجم والطير التى ربما فرّت من أعشاشها جرّاء ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؛ وقد رُوى عن هذا العصر ما تقشعر منه الأبدان حتى وشم بعضهم الصليب وشرب الخمر كى يدرأ عن نفسه تهمة الإسلام. ولن أحدثك عن تبعيته، رغم ظهوره بمظهر الوطنى الغيور، وأرشدك فى ذلك إلى كتاب «ثورة يوليو الأمريكية» للراحل جلال كشك، والذى دعمه بوثائق أفرجت عنها المخابرات الأمريكية والغربية، تثبت أن هذا الرجل يرقى إلى درجة «عدو».

وهل من المنطقى أن يستعين المفلسون بمفلس، إلا إذا كانوا فى غيبوبة، أو يتصورون أن الشعب لا زال عييًّا لا يفرق بين الصادق والكاذب؟ أيفتخرون به لهزائمه التى لا تُحصى؟ أم لفشله الذى تأثرت به أجيالنا البائسة؟ أم لعدم حفاظه على أرضنا وحدودنا؟ أم لكبره وفجوره وجرأته على دين الله؟ أم لخبله واضطرابه النفسى؟

أقول: إن شعبنا لم يعد يُغَررُ به كما كان فى السابق، وإن هذا «النموذج» الذى استعنتم به لتبييض وجوهكم يُحاكم الآن شعبيًّا، وقد خرجت عدة أحكام من ثقات اعتبرته: قابيل العصر، ورأس الأفعى، والصنم الأكبر، والعبد الخاسر، وشيطان الإنس، وزعيم المستبدين إلخ، فهل يليق بالمصريين أن يحتفوا معكم بهذا «الوهم»؟!