طائفية برسم السلطة تفتح أبواب الجحيم

- ‎فيمقالات

لأول مرة في تاريخ مصر توافق السلطات الحاكمة ممثلة في وزارة الشباب والرياضة على تأسيس ناد رياضي تابع للكنيسة مباشرة وتحت رئاسة أحد قساوستها (عيون مصر)، ليتمكن من المنافسة في الدوري العام المصري بفرَق في الألعاب المختلفة، وفي مقدمتها اللعبة الأشهر كرة القدم.

خطورة هذا الأمر أنه أدخل الطائفية إلى ساحة الرياضة بشكل علني ورسمي، وبختم السلطة، وهي الساحة الملتهبة بطبيعتها، والتي ستكون جاهزة للاشتعال عند صدور أي هتاف طائفي مقصود أو غير مقصود، وهي هتافات لا يمكن التحكم فيها من جمهور أغلبه بسيط لا يدرك تداعيات تلك الهتافات؛ مهما حاول القائمون على النادي ومن وراءهم من رجال الكنيسة التحذير منها..

مصر ليست بحاجة إلى صب المزيد من الزيت على نار الطائفية الملتهبة، بل هي في حاجة لأصوات عاقلة من المسلمين والمسيحيين لنزع أنياب تلك الطائفية، ومطاردة أشباحها المنتشرة في كل مكان. وهي بالتأكيد ليست بحاجة لزيادة رقعة المتعصبين، ولكنها قطعا بحاجة لمحاصرة تلك الفئات المتعصبة والطائفية. وموقف وزير الشباب يدعم تلك الروح الطائفية ويقوي جناح التعصب، ورغم أن الوزير حاول نفي صدور قرار بالموافقة على النادي حتى الآن، بعد ردود الفعل الغاضبة، إلا أن صورته مع القس رئيس النادي تدحض هذه المحاولة.

 

لا تصلح واقعة أو حتى بعض الوقائع، حتى لو كانت صحيحة، حول منع شاب أو صبي مسيحي من الالتحاق بأحد النوادي الكبرى لتكون ذريعة لإنشاء ناد مسيحي تابع للكنيسة مباشرة، كرد فعل على تلك الجريمة التي يجب أن يعاقب مرتكبها لمخالفته للدستور وللقوانين التي تفرض المساواة وترفض التمييز، ولا يصح تأسيس ناد تملكه مؤسسة دينية (الكنيسة الأرثوذكسية) بزعم إتاحة الفرصة للمواهب القبطية المحرومة من التدريب والمشاركة في النوادي الكبرى، في حين توجد العديد من النوادي الرياضية المهمة التي يمتلكها رجال أعمال مسيحيين مثل نادي الجونة لصاحبه نجيب ساويرس، ونادي زد لشقيقه أنسي ساويرس، ونادي وادي دجلة لصاحبه رجل الأعمال ماجد سامي. وهي نواد لم تنشأ على أسس طائفية، لكن أصحابها مسيحيون والمؤكد أنهم لن يكونوا متعصبين ضد بني ديانتهم، لكن المشكلة التي تواجههم وغيرهم من النوادي الكبرى هي أنه لا عواطف في المنافسة، فليس هناك مجال لمجاملة شخص كونه مسلما او مسيحيا، بل الأولوية هي لأصحاب المواهب الحقيقية.

يشكو المسيحيون من بعض مظاهر التمييز رغم النصوص الدستورية والقانونية المجرمة لذلك، وبعض هذه الشكاوى صحيح، وهو نتاج سنوات حكم الاستبداد العسكري الممتد منذ العام 1952، حيث وصل قبل ذلك مسيحي هو بطرس غالي إلى رئاسة وزراء مصر، كما وصل مسيحي آخر إلى رئاسة البرلمان هو ويصا واصف، ناهيك عن عديد الوزراء والمحافظين وذلك في فترة الحكم الليبرالي قبل 1952.

لكن الحال تغير بعد ذلك باستحداث "كوتة" غير مكتوبة لقبول المسيحيين في الكليات العسكرية، ومن ثم بين ضباط الجيش والشرطة، وكذا في عدد المقبولين في النيابة العامة والقضاء والسلك الدبلوماسي. لكن في المقابل وخلال فترة الحكم العسكري أيضا، نشرت الكنيسة ثقافة العزلة بين المسيحيين، بحيث أصبحت هي (أي الكنيسة) بيتهم وناديهم وحزبهم.. الخ.

وحين شهدت الحياة السياسية انفتاحا نسبيا مع ظهور الأحزاب السياسية منذ أواخر السبعينات، ابتعد المسيحيون بتعليمات كنسية عن المشاركة فيها بشكل عام (مع بعض الاستثناءات لمسيحيين ينتمون لأسر ليبرالية عريقة أو بعض المنتمين لتيارات يسارية). وقد انعكس ذلك غيابا في التمثيل البرلماني الذي كانت السلطة تغطيه جزئيا بتعيين بعض المسيحيين ضمن النسبة المخصصة لرئيس الدولة لاختيار نواب في البرلمان بغرفتيه، ولم تظهر رموز مسيحية قادرة على المنافسة السياسية (مع استثناءات قليلة أيضا). وكان هناك اتفاق غير مكتوب بين الكنيسة والسلطة يقضي بترشيح بعض المسيحيين من خلال الحزب الوطني الحاكم لضمان فوزهم بالتزوير، كما يحدث لغيرهم من المرشحين المسلمين على قوائم ذلك الحزب.

لم يختلف الشأن الرياضي كثيرا عن المجال السياسي، حيث تسببت عزلة المسيحيين داخل الكنيسة وأنشطتها في عدم ظهور مواهب رياضية متنوعة قادرة على فرض نفسها على إدارات النوادي الكبرى، (مع استثناءات قليلة أيضا). وقد تسبب هذا الغياب في شعور الأقباط بوجود تمييز ضدهم، والحقيقة أنه مجرد وهم، حيث توجد نواد كبرى يملكها رجال أعمال مسيحيين كما ذكرنا، ولم نجد بين صفوفها لاعبين مسيحيين بارزين يمكن أن تتسابق إليهم النوادي الرئيسية مثل الأهلي والزمالك.

في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعاوى إلى دولة مدنية، لا تمييز بين مواطنيها بسبب الدين أو اللغة او اللون، أو الجنس، وهي الدعاوى التي يتشارك فيها مسلمون ومسيحيون، فإن الكنيسة تحرص على بقاء الحالة "المِليّة"، بمعنى الإبقاء على الأقباط باعتبارهم ملة، كما صنفتهم قرارات الباب العالي العثماني. وهذا التصنيف يجعل الحل والعقد بيد الكنيسة، وقد كان يساعدها وفقا للخط الهمايوني مجلس مِلي من المسيحيين المدنيين من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال (من غير رجال الدين)، لكن الكنيسة نجحت في تجميد هذا المجلس منذ أواخر أيام البابا الراحل شنودة الثالث، لتنفرد هي بالقرار في الشأن المسيحي، ولتصبح هي الممثل الرسمي والوحيد لهم أمام الدولة، وهو ما انتقده أحد البرلمانيين الأقباط (جمال أسعد عبد الملاك في كتاب حمل عنوان "من يمثل الأقباط.. الدولة أم البابا؟).

هذا الوضع الملي (الطائفي) تسهم في ترسيخه السلطة والكنيسة على حد سواء، وهذا الوضع يسهل للسلطة التحكم في التعامل مع المسيحيين من خلال جهة واحدة هي الكنيسة، فيتفق معها على ممثلي الأقباط في البرلمان، وفي الوزارة، وفي الوظائف العامة الأخرى، وتقوم هي بترشيح الأسماء للسلطة. كما أن الكنيسة هي التي تتدخل في كل الملمات والأحداث التي تخص المسيحيين، وتحل تلك المشاكل بالتعاون مع السلطة مباشرة، وهي بدورها سعيدة بهذا الوضع الذي يجعلها هي المعبر الوحيد عن المسيحيين، ما يعطيها سلطة زمنية إلى جانب سلطتها الروحية.

الحكم المدني هو الحل للقضاء على هذا التوتر الطائفي، وإنهاء الحالة "الملية" التي لا تزال تنظم علاقة الدولة بالمسيحيين رغم وجود نصوص دستورية مغايرة، والحكم المدني هو الذي سيتعامل مع الكنيسة باعتبارها إحدى المؤسسات الوطنية الخاضعة لقوانين الدولة، والخاضعة لأجهزة الرقابة المالية والإدارية أسوة بالأزهر والأوقاف، والحكم المدني هو الذي سيضع القواعد الموحدة لبناء دور العبادة الإسلامية والمسيحية فينهي التوترات والاحتكاكات، والحكم المدني هو الذي سيتيح الفرصة للمواهب المسيحية السياسية والفنية والرياضية والعلمية لتأخذ مكانها اللائق في المجتمع.

…….

نقلا عن "عربي 21"