في الوقت الذي تعاني فيه مصر من أزمة اقتصادية طاحنة بعد أن سجل معدل التضخم السنوي مستوى قياسيا جديدا ناهز الـ 40% في سبتمبر الماضي وانهيار قيمة العملة المحلية مع موجات غلاء متواصلة، أدت إلى تحول ملايين المصريين إلى دوائر الفقر الجهنمية التي لا ترحم، تواصل الأسعار ارتفاعها غير المسبوق.
وأدت حملات الغلاء المتواصلة إلى تحول قطاع من المصريين إلى زائن دائمين للجمعيات الخيرية، وارتفعت نسب التسول، بالإضافة إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات السرقة والإجرام ممارسة الاعمال غير القانونية، من أجل تحصيل الأموال، وهو ما يطيح بالمجتمع المصري في أتون الجريمة والسلب والنهب ومعالجة الجوع والفقر بوسائل غير قانونية.
وهو ما يحذر منه خبراء الاقتصاد وعلم النفس والمجتمع، وهو ما يتابعه المصريون بصورة كبيرة في الأيام الماضية، من جرائم بشعة تضرب المجتمع المصري.
ومن تلك الجرائم، ما شهدته منطقة وسط القاهرة، مؤخرا، حيث أفادت صحيفة “القاهرة 24” أن تاجر الذهب يدعى حسن الخناجري وأن اللصوص هاجموا متجره الخاص بالمجوهرات والمشغولات الذهبية، في منطقة بولاق أبو العلا بالقاهرة، مستغلين وجوده بمفرده.
وقالت صحيفة المصري اليوم: إن “التحريات الأولية تظهر أن المتهمين كانوا يرتدون كمامات وأقنعة؛ ويحملون أسلحة بيضاء وقتلوا الخناجري 59 عاما، وتمكنوا من الهرب بعد سرقة محتويات المحل”.
ونشرت وسائل إعلام صورة للجناة بينما يكسرون واجهات العرض الزجاجية داخل المحل للاستيلاء على المشغولات الذهبية.
فيما قتل أحد المدرسين طالبا يأخذ درسا خاصا عنده، بمحافظة الدقهلية، الأسبوع الماضي، لمرور المعلم بضائقة مالية، فقام بخطف الطالب، وساوم أسرته على مبلغ مالي يقدر بـ100 ألف جنيه، ولما رفضوا وأبلغوا الشرطة، قام بقتله وتقطيعه جزئين، وقام بإلقاء نصفه السفلي بالقرب من أحد المناطق القريبة من سكنه، ثم ألقى النصف الآخر بجوار أحد المساقي المائية، وهو ما كشفته الأجهزة الأمنية، معترفا بأنه فعل ذلك من أجل المال الذي يحتاجه.
أوجه جديدة للجريمة في ظل الأزمة الاقتصادية
وتشهد مصر حاليا، عددا من الجرائم الجديدة نوعيا، يتزامن انتشارها مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب القاهرة، في ظل موجة غلاء غير مسبوقة تتلاقى مع صرخات الجائعين والمُتعبين الذين يجدون قوت يومهم.
وانتشرت مشاهد التسول في مصر بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وتصاعدت معها حدّة المشاحنات إثر البحث عن أبسط السلع الأساسية بأرخص الأسعار، وعاد ما يُسمّى طابور الجمعية الاستهلاكية للظهور مجددا، بغية الحصول على دجاجة مدعومة حكوميا بأسعار أرخص قليلا من الأسواق.
امتدّت الطوابير إلى ما يسمى معارض “أهلا رمضان”، التي تقام تحت إشراف وزارة التموين المصرية، وتتحوّل الطوابير، أحيانا، إلى عراك وسطو على السلع، كما حصل في أحد معارض السلع الحكومية في محافظة دمياط.
لم يكن مشهد السطو على السلع معتادا في مصر، إلا أن حالة الفقر والعوز أدت إلى المزيد من الحوادث الغريبة، منها ما وقع في محافظة الدقهلية، حيث ظهر الشخص الأسطوري الذي يسرق من الأثرياء ليمنحَ الفقراء، إذ تعرض متجر لسرقة 112 ألف جنيه مصري على يد شخص غير مهتم بكاميرات المراقبة التي رصدته، وحين ألقي القبض عليه، اعترف بأنه اشترى بالمبلغ الذي سرقه بقرتين وذبحهما ووزع لحومهما على أهالي قريته، فضلا عن كميات من الأرز والبطاطس، وخلال التحقيقات تعهد برد الأموال لمالك المتجر، وقال: إن “ما فعله سيكسبه ثوابا كبيرا ويغسل ذنوبه، على طريقة أسطورة “روبن هود” الشهيرة”.
في مدينة دمياط الجديدة، استولت عصابة ملثمة مكونة من ثلاثة أشخاص، على مليون و400 ألف جنيه من مكتب بريد حكومي، بعد السطوِ المسلح عليه، على رغم وجود قسم شرطة على بعد خطوات منه.
وأيضا، انتشرت حوادث السرقة والنصب في الشارع المصري، وظهرت صيحات جديدة، كسرقة إطارات السيارات المتوقّفة ليلًا، والاستيلاء على أغطية البالوعات وفلنكات السكك الحديدية وأبواب العقارات المعدنية، وبيعها كحديد “خردة” وعلى رغم التكتم الإعلامي الشديد على انتشار السرقات في مصر منعا لنشر الخوف أو التشكيك في قدرات الأمن، جاء السطو على فيلا اللاعب المصري محمد صلاح، نجم “ليفربول”، المؤمّنة بحراسات خاصة، ليثير مخاوف من السرقات في مناطق أخرى لا تتمتع بالتأمين الكافي.
جرائم القتل الأسرية والانتحار إلى الواجهة مجددا
وترتبط تلك الحوادث والجرائم غير المألوفة في المجتمع المصري ارتباطا وثيقا ومباشرا بالأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي تدفع المواطنين إلى الاعتماد على أنفسهم كليّاً في تأمين عيشهم، بعدما فقدوا الثقة تماما في الدولة وقدرتها على رعايتهم أو إنقاذهم من الجوع، وهو ما يطرح احتمال بدء ثورة جياع، أو انتفاضة خبز كالتي اندلعت خلال عهد الرئيس الراحل، أنور السادات، عام 1977.
ويحيا الشعب المصري حاليا أجواءا شبيهة سبقت انتفاضة الخبز، من حيث ارتفاع معدلات الجرائم واختلافها عن الجرائم السائدة، إذ شهد المجتمع سرقات لأشياء تافهة، ومنها السلع الغذائية البسيطة، وكان ذلك أحد أسباب تسمية السادات إياها بـانتفاضة الحرامية.
وبحسب دراسات، فإنه في الأوقات الصعبة التي تتزامن مع أزمات اقتصادية، نرى أفعالا غريبة وجرائم عجيبة ومُبتكرة، إلى حد أننا لا نتخيّل أن أحدا يمكن أن يفعل ذلك، فكل فرد يبحث عن مصلحته الشخصية من دون النظر الى أي مصالح أخرى، ولا يشعر بالحرج من الإقدام على أي فعل يربح منه الأموال، حتى إذا كان بذلك يؤذي الآخرين، وينتهك تقاليد المجتمع وقيمه، وهو ما نراه ويتابع المصريون كثيرا شبابا يرتدون أزياء متوسطة المستوى، وليست بالية، يتسولون في الشوارع من دون شعور بالخجل، ونجد رسائل غريبة تصل إلى الهاتف بغرض السرقة، فضلا عن انتعاش ظاهرة المستريحين، وتاريخيا، يتزايد الانتحار أيضا حين يقع المجتمع في فجوة اقتصادية، وكذلك جرائم القتل العائلية، والنمطان من الحوادث يعاني منهما المجتمع المصري حاليا بشدة.
وتشير دراسة “العنف الأسري ضد المرأة المصرية” للباحثة رجاء عبد الودود، إلى أن تعنيف الزوجات إحدى نتائج الضغوط الاقتصادية والتأثيرات السلبية للعولمة في الأسرة المصرية، بخاصة أن معاناة الأسرة من الفقر تؤدي مباشرة إلى ارتكاب بعض أفرادها جرائم، بخاصة حين يفشلون في تلبية احتياجاتهم الأساسية كالغذاء والمسكن بطرق مشروعة.
كما راجت ظاهرة المستريحين، في المجتمع المصري، الباحث عن أي فائدة مالية تغطي فقره، حتى ولو بالوهم، وخلال الأسابيع الماضية، انكشف في مصر أمر مستريحين عدة، تلقوا أموالا طائلة من مودعين واختفوا، مع غياب القبضة الأمنية والرقابة، وانتقل الأمر من مناطق نائية وقرى كما حدث في مدينة السنطة بمحافظة الغربية الأسبوع الماضي، إلى أحياء راقية كمدينة نصر، وهو ما يشير إلى اتّساع الورطة الاقتصادية لتبتلع طبقة جديدة، هي الطبقة الوسطى العُليا، التي تسكن الأحياء الشهيرة بثرائها وعمل سكانها في وظائف مرموقة.
يذكر أنه في نهاية العام الماضي، التي شهدت بدايات التضخم الهائل، أكدت مؤشرات أن نحو 33% من المصريين تحت خط الفقر، لكن ذلك الرقم تضاعف هذا العام، وفق صحيفة “فايننشال تايمز” التي قالت إن 60% من المصريين باتوا تحت خط الفقر الآن بعد ارتفاع تكاليف المعيشة، وعلى رغم ذلك، لا يزال صندوق النقد الدولي، الذي أقرض القاهرة مليارات الدولارات على مدى السنوات الماضية، يضغط في اتجاه تخفيض سعر الجنيه مجددا، وتقليص دور الدولة في دعم المواطنين، ومن المتوقّع أن يؤدي ذلك الضغط المستمر إلى المزيد من تخفيض قيمة العملة المصرية، وموجات أعلى من الغلاء، الذي قد تصاحبه صيحات جديدة من الجرائم، التي تتراوح بين الاعتداء والنصب والسطو، وبدأت تلك المؤشرات في الظهور بما يعرف بـ”عصابة هوج بول”.
حيث يبحث المصريون، معظم الأوقات، عن اقتصاد بديل لإنقاذ مدّخراتهم أو إعانتهم على غلاء الأسعار، هو ما دفع 800 ألف مصري إلى المشاركة في منصة “هوج بول” التي روجت لنفسها، طوال أشهر، على أنها تستثمر الأموال في تعدين العملات الرقمية، في تطوّر أكثر بريقاً وتنظيماً لفكرة “المستريح”، مقابل تحقيق أرباح هائلة، وهو ما دفع قرابة المليون مصري إلى المشاركة فيها بمبالغ زهيدة، ومع تحقيق بعض الربح، تضاعفت تلك المبالغ، حتى جمعت منصة “هوج بول” نحو 6 مليارات جنيه مصري ، ليستيقظوا يوما على إغلاق المنصة وهَرَب ملاكها.
فيما تتفرغ السلطات الأمنية والرقابية في مصر للأمن السياسي وملاحقة المعارضين، بعيدا من حفظ الأمن في الشوارع، وهو ما أمن بيئة آمنة لحوادث السرقة والقتل المرشحة للزيادة أكثر فأكثر.