بقلم: وائل قنديل
مفهومٌ أن هناك من استبد به شطط التخندق المذهبي، أو الاحتباس الطائفي، فوجد في استشهاد حسن نصر الله مناسبة للتعبير عن شماتةٍ ماجنةٍ جعلت بعضهم يندفع بعيداً جدّاً عن اعتبارات وطنية وقومية وإنسانية، ويرقص بخلاعة على ألحان نتنياهو وإنجازات الـ F35 الإسرائيلية الأميركية.
هذا صنفٌ واضحٌ من الذين عبّروا عن التماهي الصريح مع الصهيوني في إنجازه وفي فرحه، وبالتالي، سهلوا علينا إسقاطهم من المعادلة، ووفّروا مشقّة النقاش في أمر محسومٍ بالنسبة لهم، فليهنأوا بدوافعهم وشفاء صدورهم التي تبقى جائعةً طوال الوقت لكمياتٍ إضافية من مسبّبات الشماتة والسعادة والرغبة في التكفير، أراحوا واستراحوا.
أمّا ما يخشى منه حقًا فهو تكاثر هذا النوع من جماعات الحياد العاطفي والمشاعر المتضاربة والملتبسة، والذين يلخّصون موقفهم كالتالي: حيرة بين السعادة لموت نصر الله “سيد المقاومة العربية” والحزن لأن قاتله هو الصهيوني.
ينطلق هؤلاء من استدعاء موقف نصر الله من الثورة السورية، وهو موقفٌ سبق لكاتب هذه السطور إدانته واستنكاره في وقته، لكننا اليوم بصدد موضوع آخر تماماً هو فلسطين وغزّة ومقاومة عدو يعصف بالجميع، وهنا موضع النظر والتقييم، والذي لا يصحّ فيه الخلط والالتباس والتشويش.
هذا التيارالمشوِّش (بضم الواو وكسرها) هو الخطر على مستقبل هذه الأمة، والذي هو نتاج عقود طويلة من تعليم تحكّمت في وضع مناهجه واشنطن وتل أبيب، وإعلام يروج طوال الوقت هذا الالتباس في الشعور وفي الفهم وفي القناعة، والتديّن الفاسد الذي يعادي المقاومين، بصرف النظر عن مذهبهم، ولا يرى غضاضة في اعتبار استشهادهم هلاكاً، ويحتفل به بخلاعة مقرفة. تنامي هذا التيار هو المؤلم بالفعل، وخصوصاً حين تكون المسألة من الوضوح بما لا يصلح معه ادّعاء الالتباس والحيرة، فالشهيد ليس، فقط، داعماً للمقاومة، بل هو المقاومة ذاتها وأحد سادتها الصادقين، كما أنه ليس مجرّد داعم للقضية أو معين لأهلها، بل هو صاحب القضية وواحدٌ من خلصاء أهلها أكثر من ثلاثة عقود أمضاها محارباً للاحتلال الصهيوني لفلسطين ولبنان، من دون تفرقة بين ترابين ووطنين، محتضناً القدس والأقصى كما احتضنهما كبار قادة المقاومة الفلسطينية من مختلف الاتجاهات، ومنذ اغتيال زعيم حركة حماس التاريخي، الشيخ أحمد ياسين، وهو يضع نفسه جنديّا تحت تصرّف قيادات المقاومة الفلسطينية.
وعلى ذلك، حين يروّج على نطاق واسع عبارات من نوعية “لا أفرح بموت أي شخص يقف معنا ضد الاحتلال مهما كانت عقيدته”، فهذا نوع من الاستعلاء الأجوف والادّعاء الكاذب بامتلاك القضية وامتلاك اليقين والحقيقة، فالثابت أن ظاهرة حسن نصرالله وحزب الله من صميم تجليات الذات العربية الرافضة للوجود الصهيوني وتمدّده في فلسطين المحتلة، ورصيده في هذا الميدان يفوق ما لدى الذين يعدّون أنفسهم معياراً للانتساب إلى القضية، وبالتالي، رحيله خسارة للبنان ولفلسطين وللعرب جميعاً، بل لن تكون ثمة مبالغة لو قيل إن غيابه سيُحدث تأثيراً هائلًا على وزن لبنان الإقليمي، وقوته التفاوضية نضالاً من أجل حماية حدوده البحرية وحقوقه في الغاز الطبيعي. وها هو وزير الطاقة الصهيوني يعلن، فور جريمة اغتيال الشهيد نصر الله، أنه حان الوقت لإلغاء اتفاق الغاز مع لبنان، والذي ما كان يمكن التوصل إليه قبل عامين لولا وجود قوة مقاومة وطنية لبنانية يقودها الزعيم التاريخي لحزب الله. كما لا تكون مبالغاً لو قلتَ إن الشعوب العربية تدرك أنها فقدت شخصية تاريخية لا تتكرّر كثيرًا، حتى لو انقسم الناس بشأنها تأييداً أو رفضاً، على نحو ما ثار من جدل بعد رحيلي جمال عبد الناصر وصدّام حسين.
رجل بهذه الروح وهذه العقيدة وهذه التضحيات أكثر من 33 عاماً، حتى لقي ربه قصفاً بأكثر من عشرين ألف طن من المتفجرات تطلقها صواريخ العدو، إن لم يكن شهيداً فمن يكون الشهيد؟ وإن لم تحزن على رحيله الأمة فعلى من تحزن؟.
مؤسفٌ ألا يتضمن عنوان خبر رحيل نصر الله في كل فضائيات العرب كلمة “استشهاد”، فتقول بعضها “اغتيال” وأخرى تستخدم كلمة “مقتل”، والحديث عنها ليس عن قنوات ناطقة بالعربية وتصدر عن حكومات عربية، لكنها تقدم مضموناً صهيونيّاً صريحاً، بل عن فضائيات يعدها الناس منحازة للمقاومة، كان صادماً أنه ثقل عليها أن تسميه “الشهيد” لكنها، وبمنتهى الخفة والسهولة، تقول، مثلاً، في خبر عاجل”إطلاق نحو 75 صاروخاً من لبنان باتجاه الأراضي الإسرائيلية” على نحو ما فعل محرّر الأخبار العاجلة في”الجزيرة”.
من شأن هذه الصياغات، حال اعتمادها وتكريسها، وتكرارها طوال الوقت، من شأنها أن تُحدث مفعولاً في طبقات الوعي أسرع وأكثر تدميراً من منهج دراسي كامل لمواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، يضعه خبراء إسرائيليون وأميركيون، وهي صياغات جديدة وصادمة في آن، إذ كان لفظ “الأراضي” يُستخدم للإحالة إلى احتلال فلسطين، فيُقال “الأراضي الفلسطينية المحتلة”. وحين يستخدم اللفظ نفسه مع المحتل فهذا بمثابة إسباغ نوع من أنواع الشرعية اللفظية أو المفاهيمية على اغتصابه أرض فلسطين. هذا العبث بالمفاهيم والمسميات والخرائط جزء من صناعة التباس المشاعر وتشوش الوعي وفقدان البوصلة بالتدريج.