بقلم ممدوح الشيخ
ثمّة ما يشبه الإجماع على أن العالم يشهد تغيّراً قد يكون مفصلياً، لكن تفسير التغيّر والتنبؤ بمساره المستقبلي يبقى جدلياً إلى حدّ كبير. وبين العوامل الاقتصادية والسياسة، ينتقل الخطاب التحليلي إثباتاً ونفياً، تضخيماً وتهويناً، بينما قد يكون أحد لاعبي الظلّ أكثر تأثيراً من الفاعلين الأكثر حظّاً من الاهتمام. وخلال سنوات قليلة، لعبت الطائرات المُسيّرة دوراً مشهوداً في تغيير بنية الصراعات العسكرية، وكان من سمات حضورها المتزايد أن عواصم غير غربية أصبحت بين معاقل صناعتها. وتستدعي الملاحظة من الذاكرة استنتاجاً كتبه أحد أهم خبراء الاستراتيجية العسكرية في العالم، البروفيسور الأميركي باول براكين، في كتاب صدر قبل ربع قرن "نار في الشرق… صعود نجم القوة العسكرية الآسيوية والعصر النووي الثاني" (1999). قال، بلغة فلاسفة التاريخ الكبار في استنتاجاتهم المتّصفة بالتعميم، إن العالم أمام شيء لم يرَه منذ القرن السادس عشر؛ قوىً عسكرية حديثة، ومهارة تكنولوجية خارج الغرب، ودول تبني صواريخَ ذات رؤوس نووية أو بيولوجية أو كيميائية. وبحسب براكين، ينسف هذا التحوّل التوقّع الغربي المريح بأن العولمة ستقود الدول إلى منافسة اقتصادية سلمية، والتجربة أثبتت أن العولمة تتعلّق بالاقتصاد وليس بالسياسة، وأنها زادت قدرة جيوش وطنية، ووفّرت كثيراً من مصادر التقنيات العسكرية.
وما شهده العالم في السنوات القليلة الماضية حافل بأمثلة تؤكّد ما رصده براكين منذ ربع قرن، من القدرات العسكرية لجهات فاعلة من دون الدولة، حركة حماس وجماعة الحوثي، وهي قدرات شملت صواريخ وطائرات من دون طيّار واستخدامات غير متوقّعة لوسائل مدنية، أصبحت توصف بـ"التقنيات مزدوجة الاستخدام (المدني – العسكري)". ولنتذكّر مشهد الموجة الأولى من المظّلات الطائرة التي استخدمت في عملية طوفان الأقصى. وفيما يتّصل بالدول، يشير مسار صناعة المسيّرات في تركيا، والاستخدام الواسع لها لبناء نفوذ سياسي إقليمي، إلى مشهد من مشاهد تصدّع الاحتكار الغربي للتكنولوجيا العسكرية إنتاجاً وتسييساً. والتقنيات العسكرية الصينية التي لفتت النظر في الصدام الهندي – الباكستاني الأخير نموذج آخر من نماذج تغير "خرائط التدفّق".
وطرأت على مفهوم التكنولوجيا العسكرية تغيّرات أجبرت السياسة والاقتصاد معاً على إعادة النظر في كثير ممّا بدا دوراً قيادياً حصرياً لهما، ومعارك السيطرة على تدفّق التكنولوجيا، التي تمتدّ من أقصى شرق العالم إلى أقصى غربه، يقع في قلبها السعي إلى استعادة السيادة الغربية "الحصرية" على التكنولوجيا العسكرية. وحتى اقتصاديات إنتاج التكنولوجيا العسكرية تغيّرت، فإلى وقت قريب كان إنتاجها يتطلّب مواردَ ماليةً مهولةً ومواردَ فنّيةً تتسم بالضخامة، وكانت منتجاتها تتمايز بحسب ما تتّصف به من ضخامة وتعقيد، وهو مسار ينعكس اليوم، ذلك أن "التبسيط" و"التصغير" يكادان يمسكان دفّةَ قيادةِ قسم لا يُستهان به مُخرجات الجيل الجديد من الأسلحة التي تُنتَج خارج الغرب.
إمكان تحويل مسيّرة صغيرة تباع لتستخدم في أغراض مدنية إلى سلاح حرب مثال له عشرات النظائر
وقد أنشأ الغرب عام 1949 لجنةً دوليةً متعدّدةَ الأطراف للسيطرة على تدفق التكنولوجيا العالمية (اختصاراً "كوكوم"). في إطار صراعات الحرب الباردة، وقبل أن يتقرّر حلّها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، كانت سنوات عملها قد أكّدت ظاهرةَ تلاشي الخطوط الفاصلة بين "التكنولوجيات المدنية" و"التكنولوجيات العسكرية"، لتظهر قائمةٌ لم تزل تزداد طولاً، تضمّ "التكنولوجيات مزدوجة الاستخدام (المدني – العسكري)". ومن هذه الثغرة، مرّ كثير ممّا غير شكل الحروب ونمط إنتاج الأسلحة، وتبقى مفارقة أن إحكام السيطرة على نحو تام على هذا التسرّب لا يمكن أن يتحقّق إلا بفرض قيود واسعة على التجارة العالمية، وتؤكّد التجربة أنه شبه مستحيل، وأن كلفته على الغرب مما يصعب احتماله.
وإمكان تحويل مسيّرة صغيرة تباع لتستخدم في أغراض مدنية إلى سلاح حرب مثال له عشرات النظائر، والمكوّنات المدنية في العديد من المنتجات المنزلية العادية إلى مكوّن في منتج عسكري تشمل قائمةً طويلةً يشكّل إمكان حظرها ضرباً من الخيال، فلماذا غابت الدول العربية عن هذا التحوّل، رغم أن دولاً مثل تركيا وجهات فاعلة من دون الدولة ("حماس" والحوثيين) واكبت هذا التحوّل؟ وإلى أي حدّ رسّخت عواصم غير غربية مكانتها (كما أشار براكين قبل ربع قرن) بوصفها حاضنات لصناعات عسكرية قادرة على منافسة الغرب للمرّة الأولى منذ القرن السادس عشر؟